إعلانات

في الطريق نحو المقبرة.. أهالٍ يفضّون من أيديهم ألعاب أطفالهم في غزة

أحد, 21/01/2024 - 04:13

صورة الطفلة الشهيدة سيدرا مطر

 

  • الميادين نت

يزدحم قسم الأطفال في مستشفى كمال عدوان، شمالي مدينة غزة، بالمئات من حديثي الولادة. مؤخراً، قرّرت إدارة المستسفى وضع كل طفلين في سريرٍ واحد. تكسو الحيرة والقلق وجوه الأمهات اللواتي يرافقن أطفالهن، إذ لا يحيط الأطباء بالتشخيص الدقيق لحالات المرضى.

 

الأزمة التي يعانيها المستشفى، وهو الوحيد الذي شُغّل أخيراً في شمالي غزة، بعد أن اقتحمته الدبابات الإسرائيلية ودمرت أجزاءً كبيرة من بنيته التحتية، لا تتعلق بنقص الدواء والمعدات الطبية فقط، وإنما أيضاً بنقص حاد في الكادر الطبي، الذي تشتت بين نازح ومعتقل وشهيد.

 

يقول مصدر طبي للميادين نت: "نعاني أيضاً نقصاً كبيراً في غاز الأوكسجين. كثيرون من المرضى الأطفال قَضَوا في غرفة العناية المركَّزة، بعد أن نفد الغاز من جهاز التنفس".

 

واحدة من الضحايا كانت سيدرا مطر، ابنة العام ونصف العام. فتاة جميلة الوجه، ذات عينين زرقاوين. كانت دخلت قسم العناية المركّزة في المستشفى، بعد أن تدهورت حالتها الصحية على نحوٍ مفاجئ. حينما كنا ننهي حديثنا إلى والدة أنس، كان والدها ينهي وضع عصابة الكفن الأخيرة حول رأسها. بدت سيدرا في أجمل ما يمكن أن تبدو عليه طفلة. باتت "ذخراً لنا عند رب كريم. من عصافير الجنة، يا أم صالح"، قال والدها، مواسياً زوجته التي خطّت الدموع المالحة أخاديدَ في وجهها.

 

أم صالح، كانت واحدة من الأمهات اللواتي يزدحم بهنّ قسم الأطفال. باتت ليلتها الأخيرة مع ابنتها وحيدة، إذ إن على الزوج الشاب أن يرافق ابنيه صالح وسوار في مركز الإيواء الذي يؤيهم: "لو كنت أدري أنها الليلة الأخيرة لسيدرا، لما تركت أم صالح تذرف الدموع وحيدة. نفد الأوكسجين من جهاز التنفس الاصطناعي، الساعة الخامسة فجراً. وصلت إليها في الساعة التاسعة صباحاً. لقد أمضت أربع ساعات في ضيافة الفقد الثقيل وحيدة".

 

بخطوات متعثرة، حمل الأب طفلته وخرج من باب المستشفى، وعلى كتفيه حطّت أحزان العالم كله. عليه الآن أن يترك من يده كيس اللُّعَب، الذي جاب من أجل شرائه شوارعَ غارقة بالوحل والركام والدماء، ويبدأ رحلة البحث عن قبرٍ يواري فيه جثمان طفلته الشهيدة. مَشَينا في موكب الحزن. من كانت مثل سيدرا لا تُترك حتى وهي شهيدة!

 

من المستشفى، الذي يقع في مشروع بيت لاهيا، إلى وسط مخيم جباليا، غادر الموكب سيراً على الأقدام. أخفّ ما كان يحمله الأب هو جسد ابنته الشهيدة. في جباليا، تداعى العشرات من الشبان من أجل المساعدة. وجدوا صدفةً، فسحة شاغرة تتوسط شارعين، لم يُدفَن فيها أحد بعدُ. مترٌ ونصف متر، مساخة ليست كافية لجثمان شهيد كبير. هناك، حفروا قبر سيدرا، تحت المطر الذي تخفي غزارته دموع الرجال. صلّوا عليها صلاة الجنازة: "شوي شوي، نزّلها بشويش"، قال أبو صالح لخالها، الذي تولى مهمة الدفن.

 

للقبر الموقت مواصفات مغايرة للقبور التقليدية. تُلَفّ الجثامين بكيس من البلاستيك، كي تسهل إعادة الانتشال إلى المرقد الأخير بعد انتهاء الحرب. وُضعَت الطفلة في كيس بلاستيكي، وغطوا قبرها بلوحٍ خشبي. بقيت ثغرة فارغة. من الممكن أن يتسرب منها التراب إلى الجثمان. أسرع الوالد بحثاً عن حجارة صغيرة لسدها. بقيت مساحة في حاجة إلى مزيد من الحجارة. عاد الأب مجدداً، حاملاً أسطوانة حديدية، أغلقت الثغرة المتبقية تماماً.

 

هكذا دُفنت سيدرا. لم تكن الأسطوانة الحديدية سوى واحدة من القذائف الدخانية، التي سقطت مثيلتها على الغرفة، التي كانت تُؤوي الطفلة الشهيدة.