إعلانات

فيلم "the woman king".. كيف يمكن للسينما أن تزوّر التاريخ؟!

اثنين, 31/10/2022 - 03:54

كاميليا حسين

 

في عام 2010، واجهت المخرجة "جينا برينس بايثوود" سؤالا مفاجئا من طفلها البالغ من العمر وقتها 13 عاما، والذي كان واحدا من محبي أبطال مارفيل الخارقين، حيث سألها عن سبب عدم وجود أبطال خارقين سود البشرة. تقول بايثوود إن ذلك السؤال كان لحظة مفصلية في مسيرتها، وبدلا من أن تجيبه بأنها تتمنى أن تتمكن من عمل ذلك، قررت أن تكون إجابتها: سوف أقوم بفعل ذلك(1).

وهكذا بعد مرور أكثر من 10 سنوات، جاء فيلمها الملحمي "The woman king" الذي عُرض للمرة الأولى في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي في سبتمبر/أيلول من العام الحالي 2022، ليحقق نجاحا كبيرا أكبر من توقعات النقاد، وتبلغ أرباحه أكثر من 64 مليون دولار.

 

 

(مواقع التواصل الاجتماعي)

 

الفيلم الذي يُصنّف باعتباره فيلم دراما وحركة تاريخيّا، يتناول الدور التاريخي الذي لعبته فرقة "أغوجي (Agojie)"، وهن المقاتلات النساء اللواتي دافعن عن مملكة داهومي، وهي إمبراطورية قديمة في غرب أفريقيا تأسست عام 1625 واستمرت حتى عام 1894، ولا تزال أطلالها باقية في جمهورية بنين الحديثة، التي تحتل شريطا ضيقا من الساحل بين نيجيريا وتوغو.

تعددت الروايات حول نشأة هذه الفرق المقاتلة، لكن الرواية الأكثر انتشارا وشيوعا أنهن كنّ حارسات للملكة هانغبي ومن تلاها من الملوك. لكن لم يتقرر التحاقهن رسميا بجيش داهومي حتى عهد الملك غيزو، والذي تولى الحكم ما بين عامَي 1818 و1858، وذلك لسد العجز في عدد المقاتلين الذكور في الجيش، والذي حدث نتيجةً للاضطرابات والحروب التي شهدتها المنطقة في ذلك الوقت. وقد أطلق الأوروبيون الذين زاروا المملكة في القرن التاسع عشر عليهن لقب محاربات الأمازون، نسبة إلى المقاتلات الشرسات في الأساطير الإغريقية.

 

 

مقاتلات داهومي (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

يتتبع الفيلم في خطّه السردي الرئيسي بطولة المحاربات، ويُركّز على الجنرال "نانيسكا"، زعيمة المحاربات، والتي أدت دورها ببراعة النجمة الأميركية الحائزة على جائزة الأوسكار "فيولا ديفيس"، والتي تقوم بتدريب جيل جديد من المحاربات، من بينهن الفتاة الصغيرة المتمردة "ناوي"، والتي لعبت دورها "ثوسو مبيدو"، وقد دخلت إلى صفوف المقاتلات بعد أن قاومت رغبة عائلتها في تزويجها من شخص ثري ومسيء؛ ما دفع والدها إلى تسليمها إلى الملك وجيش المحاربات كي يتخلص من تمردها. يتتبع الفيلم قوة المقاتلات وبسالتهن والروح الأخوية التي تجمع بينهن، ولأنه فيلم هوليودي، فهو لا يخلو من الخط العاطفي الذي تمثل في قصة الحب التي تجمع بين "ناوي" وتاجر الرقيق الأفرو برازيلي "ماليك".

يقدم الفريق التمثيلي أداء مدهشا، خاصة "فيولا ديفيس" التي تمكنت من الغوص في أعماق شخصية القائدة القوية والحازمة التي تخفي هشاشتها الداخلية، بأداء غاية في العمق والرهافة. كما يقدم الفيلم مشاهد الحركة والقتال المرسومة بعناية، والتي أثبتت فيها "بايثوود" قدراتها الإخراجية في تحدٍ جديد يضاف إلى مسيرتها.

 

الوجه الآخر للحقيقة

 

 

مقاتلات داهومي (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

ورغم النجاح الكبير الذي حققه فيلم "The woman king" سواء على المستوى النقدي أو الجماهيري، فإنه واجه جدلا كبيرا منذ إصداره، بل ووصل الأمر إلى انتشار الدعوات لمقاطعته على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، حيث انتشر وسم "#Boycottwomanking" بشكل واسع.

تركزت الانتقادات بشكل رئيسي على تحريف حقائق التاريخ، حيث تعتمد حبكة الفيلم على ثنائية مركزية تقدم مملكة أويو الشريرة ضد مملكة داهومي البريئة التي تسعى لإنهاء تجارة الرقيق، ويظهر الملك "غيزو" في الفيلم ملتزما بإنهاء تجارة الرقيق في مواجهة جشع تجار الرقيق البرازيليين ومملكة أويو المنافسة، ويقدم الفيلم محاربات داهومي بصفتهن مقاتلات في سبيل إنهاء تجارة الرقيق.

في حين أن الوثائق التاريخية تقدم لنا حقائق مغايرة، فقد ظلت تجارة الرقيق واحدة من أهم مصادر مجد وثروة مملكة داهومي ولعبت دورا كبيرا في ازدهارها، في حين أن مقاتلات داهومي اللاتي صورهن الفيلم باعتبارهن مناهضات للعبودية ومقاتلات من أجل الحرية كنّ في الواقع مجرد مقاتلات في خدمة مصالح الملك قمن بالعديد من المذابح الوحشية في سبيل أسر العبيد وبيعهم لصالحه، كما ساعدن أيضا في قمع التمردات بين العبيد قبل أن تتصاعد لتتحول إلى انتفاضات عنيفة.

أما الملك "غيزو" فلم يوافق على إنهاء مشاركة داهومي في تجارة الرقيق حتى عام 1852، وذلك بعد سنوات من الضغوط التي مارستها الحكومة البريطانية، والتي كانت قد أصدرت قرارات بإلغاء العبودية في مستعمراتها في عام 1833.

 

جعل ذلك الفيلم يقدم صورة رومانسية مفعمة بحنين ميلودرامي لتبييض الوجه الكئيب لتاريخ العبودية في أفريقيا خلال القرن التاسع عشر، فقد باع الأفارقة أفارقة آخرين عبيدا، وهي حقيقة لا يمكن تجنبها، رغم أنها لا تقلل أو تستبعد مسؤولية تجار الرقيق الأوروبيين.

 

كتاب: Barracoon: The Story of the Last Black Cargo

 

ففي عام 1927، سافرت عالمة الأنثروبولوجيا والصحفية والمخرجة الأميركية الشهيرة "زورا نيل هيرستون" إلى ألاباما، وذلك لمقابلة "كودجو لويس" البالغ من العمر أكثر من ثمانين عاما، والذي كان واحدا من آخر الناجين من سفن العبيد المتجهة إلى أميركا في عام 1860. وهي المقابلة التي نُشرت في كتاب حمل عنوان "Barracoon: The Story of the Last Black Cargo".

كان كودجو لويس يبلغ من العمر 19 عاما عندما قامت المحاربات من داهومي بمهاجمة قبيلته وذبح معظم أفراد عائلته وأسره مع مجموعة أخرى ليُباعوا رقيقا. في كتابها وصفت هيرستون كيف كان أثر الألم والصدمة واضحا في رعشة وجهه عند تذكر تلك الأحداث رغم أنه جاوز الثمانين من عمره بعدّة سنوات عند رواية تلك القصة لها.

يقدر المؤرخون أن ما يقرب من مليون أفريقي مستعبد شُحنوا على متن السفن إلى الأميركيتين من ميناء عويضة (في بنين حاليا) في الفترة ما بين عامَي 1659 و1863؛ ما يجعله ثاني أكبر مورد للأسرى الأفارقة في تاريخ تجارة الرقيق.

لقد أسهمت محاربات داهومي في تدمير حياة الآلاف من أمثال كودجو، هذا العجوز الثمانيني الذي ظلت فظائعهن مرتسمة في ذاكرته لمدة عقود، وهو ما يفسر دعوات المقاطعة ورفض العديد من الأشخاص لتحويل قصة محاربات داهومي إلى قصة عن تمكين النساء، حيث يرى معارضو الفيلم أن هذا الميل لتقديم صورة رومانسية بدلا من الحقائق التاريخية يلحق ضررا كبيرا بتاريخ النضال الأفريقي ضد العبودية، ويظهر هوسا متواصلا ظهر في أفلام، مثل "Black is King" و"Black Panther" و"The Woman King"، بتجنب الواقع وإعادة اختراع ماضي أفريقيا(3).

 

بطولات مجهولة

 

 

على الجانب الآخر، هناك قصص أخرى كثيرة تستحق أن تُروى في التاريخ الأفريقي حول مناهضة تجارة الرقيق في أفريقيا ما قبل الاستعمار، وهو ما يجعل من اختيار مملكة داهومي للتركيز عليها غير واقعي ويخدم أغراضا بعينها بغض النظر عن الحقائق. لقد أُهمِلت مساحات شاسعة من النضال ضد مقاومة العبودية في أفريقيا في العديد من المحطات المهمة التي تستحق الالتفات إليها، لعل أقدمها مراسلات "نزينجا مبيمبا" -حاكم مملكة الكونغو- إلى ملك البرتغال "جواو الثالث" في عام 1526 والتي طالبه فيها بإنهاء التهجير غير القانوني لمملكته، وهو ما فعله أيضا خليفته "جارسيا الثاني" لكن دون نجاح كبير. وفي أوائل القرن السابع عشر، حاربت "نزينجا مباندي" -ملكة ندونغو (أنغولا الحديثة)- ضد البرتغاليين كجزء من حملة مقاومة استمرت قرنا ضد تجارة الرقيق.

كما عارضت العديد من الولايات الإسلامية في غرب أفريقيا الاتّجار بالبشر، بما في ذلك "فوتا تورو" في حوض نهر السنغال في أواخر القرن الثامن عشر، و"فوتا جالون" في ما يعرف الآن بغينيا في أوائل القرن التاسع عشر، وقد كتب أحد الزعماء الدينيين في المنطقة رسالة إلى تجار الرقيق البريطانيين يهدد فيها بالقتل أي شخص يحاول أخذ العبيد من بلاده. وجاءت ذروة هذا النضال في عام 1791، عندما هزم العبيد في مستعمرة "سانت دومينغو" الفرنسية 3 قوى أوروبية لتأسيس أول جمهورية سوداء، "هاييتي"(4).

في ردها على الاتهامات الموجهة للفيلم، قالت "فيولا ديفيس" إنك لن تربح جدلا أبدا على تويتر، وإن قصة الفيلم خيالية وليست حقيقية، كما نبهت "ديفيس" إلى أن الجماهير الذين يقاطعون الفيلم يدعمون بذلك السردية التي تفترض أن النساء السود لا يمكنهن تصدر شباك التذاكر. وعلّق "يوليوس تينون"، منتج الفيلم وزوج ديفيس، أن "الفيلم ترفيهي، وليس فيلما تسجيليا أو تاريخيا، ومن أراد الحقائق عليه أن يبحث عنها بنفسه".

 

 

(مواقع التواصل الاجتماعي)

 

 

بالتأكيد ليست هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها السينما فيلما روائيا يستند إلى أحداث حقيقية، وتغيّر فيها لتقديم رؤيتها، على سبيل المثال ربما نتذكر فيلم "Inglourious basterds"، الذي تلاعب بالأحداث على هامش الحرب العالمية الثانية، لكن لا يمكننا مقارنة الفيلمين، فبينما يوجد لدى أغلب الجماهير حول العالم معرفة عامة بأحداث الحرب العالمية الثانية، فإن التاريخ الأفريقي يظل مجهولا لدى الغالبية.

وبينما ينصح المنتج من يرغبون في معرفة الحقيقة بالبحث، فمع الأسف واقع الأمر أن السواد الأعظم من المشاهدين لن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن التاريخ الذي يقف وراء الإلهام الفني للفيلم السينمائي، وهو ما يطرح سؤالا حول إمكانية الاستمتاع بعمل فني تخيّلي يستند إلى أحداث حقيقية تم تزييفها لتصبح رموزا أفضل مما كانت عليه في الواقع، وإذا كان بإمكاننا تحمل الحقيقة الوحشية حول هوية هؤلاء المقاتلات مع تلقي ما يرمز إليه وجودهن في الفيلم من معانٍ أكثر رقيا وإنسانية. (5)

 

في حديث خاص لميدان، سألنا الناقدة السينمائية "علياء طلعت" حول رأيها في علاقة الفن بالتاريخ في الأعمال السينمائية التي تستند إلى أصول تاريخية، وإذا كان الفن دوره ترفيهيا بالأساس، ولا يمكن اعتباره درسا بالتاريخ، فهل يحق لنا -نحن المشاهدين أو حتى النقاد- محاكمته باعتباره يزيف التاريخ؟ فأجابت قائلة إنه "في الأحوال العادية، الفن، وخاصة الأفلام الروائية، ليست وثائق تاريخية يمكن الاستناد إليها، ولكن هناك نوع من أنواع المسؤولية يقع على عاتق صنّاع العمل، خاصة عند تناولهم موضوعا شائكا، وخاصة إذا كان التاريخ واضحا".

تضيف قائلة: "مثلا، في حالة هذا الفيلم، هو لم يقم فقط بتغيير التاريخ، وإنما زيفه وقلب حقيقته بشكل كامل، فهذا الفيلم يحمل رسالة واضحة لتمكين النساء، خاصة النساء من ذوات الأصول الأفريقية، لذلك لا يمكن تقبل تقديمه القبيلة التي أسهمت بقوة في تجارة العبيد باعتبارها قبيلة شريفة مناهضة لتلك التجارة، فهو لم يقم فقط بتجاهل الحقائق التاريخية من أجل المسار الدرامي، وإنما قام بلَيَّ عنق التاريخ كي يخدم هدفه، وهو هنا ليس مجرد هدف فني، وإنما هدف أيديولوجي".

 

نساء داهومي ونساء اليوم

 

 

رغم تميز مشاهد القتال والمعارك، لا يمكننا اعتبار فيلم "The woman king" مجرد فيلم من أفلام الحركة، فهو يطرح العديد من الأسئلة حول معاني القوة والتضحية والأدوار التي تلعبها النساء في المجتمعات الأبوية، وما مدى حريتهن، وما الأثمان التي ينبغي عليهن دفعها لبلوغها.

 

في بداية الفيلم، يمكننا أن نرى قوة هؤلاء النساء ونفوذهن في مشهد مرور موكبهن بالبلدة، حيث لا يجرؤ أحد على رفع عينيه عن الأرض، وعلى الرغم من كل ما يقدمه الفيلم من قيم البطولة والقوة النسائية، لا يمكننا أن نرى داهومي هنا مدينةً نسوية فاضلة، بل على العكس النساء هنا ما زلن يحاربن في إطار خدمة المجتمع الذكوري الأبوي، ويضحين بحياتهن وبحريتهن من أجل المحاربة في سبيل الملك والإمبراطورية.

وخارج فرقة المقاتلات، لا تزال نساء داهومي وأجسادهن تُعامَل باعتبارها ممتلكات للأزواج والآباء، أو مقتنيات للمقايضة والتبادل في أسواق الرقيق، يمكننا رؤية هذا بداية من والد "ناوي" الذي حاول تزويجها لرجل ثري ومعنِّف، وعندما أظهرت مقاومة لرغبته تَخَلَّص منها وأهداها إلى الملك. بل وحتى في الخط الرومانسي في الفيلم والذي يجمع "ناوي" بتاجر الرقيق، نشاهد كيف يقدم لها في أحد المشاهد ملابس أوروبية حديثة، تلك التي تساءلت عندما وصفها لها كيف تتمكن النساء عند ارتدائها من الركض والقتال.

في النهاية، يبقى أن نؤكد أن الجدل الذي أثاره العمل ينبع من كونه يتبنى أفكار بعينها تتجاوز الطبيعة المُعلنة للفيلم الذي يشار إليه على أنه مجرد فيلم "حركة". المشكلة الحقيقة إذن أن الفيلم تجاوز الإطار الذي يضعه فيه صانعوه إلى مضامين أيديولوجية واضحة، لذا لا يمكن لوم الجمهور على انتقاد العمل من هذه الزاوية أيضا.

 

__________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة