إعلانات

200 عام من الاستعلاء الفرنسي

ثلاثاء, 26/10/2021 - 02:09

خديجة جعفر

 

ربما لم يَحُز حدثٌ فرنسيّ مثل التغطية الإعلامية الكبيرة بقدر ما حاز حدث الرسوم المسيئة و تداعياته في شهر أكتوبر/تشرين الأول المنصرم؛ فقد خرج علينا رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون في مقابلة على الجزيرة في نهاية أكتوبر/تشرين الأول يحاضر العالَم الإسلامي فيها عن التنوير الفرنسي ومبادئه، إثر حملات مقاطعة تلقائية للبضائع الفرنسية من شعوب العالم الإسلامي. لم تخلُ كلمات الرئيس الفرنسي ولهجته من نبرة الاستعلاء التي لم تبرح فرنسا منذ 200 عام، أي منذ فجر حركة التنوير التي حاول الرئيس ماكرون شرح بعض مبادئها للعالم العربي في مقابلته على الجزيرة.

أوّل ما يلفتنا في خطاب ماكرون تأكيده عدم تسويغ العنف مطلقًا في إشارة إلى جريمة قتل المدرس الفرنسي صموئيل باتي في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020، الذي قتله شاب روسي مسلم لاجئ على أرض فرنسا بدافع الغضب من عرض المدرس الرسوم المسيئة عن الرسول صلّى الله عليه وسلم في فصله الدراسي.

تأكيد ماكرون هذا لعدم تسويغ العنف يدلّ على افتراضه أنّ هناك من سوّغ العنف في العالم الإسلامي، ولكن يبدو أنّ رئيس فرنسا لم يطّلع على الأخبار جيدًا قبل المقابلة ليعلم أنّه لا توجد جهة معتبرة رسمية أو مؤسسية في دول العالم الإسلامي إلا شجبت واستنكرت جريمة القتل، بدءًا من رؤساء الدول حتى الجهات الدينية المعتبرة، وانتهاءً بعموم شعوب العالم الإسلامي.

في الحقيقة، فإنّ فرنسا أبعد ما تكون عن نبذ العنف كاملًا، فإنّ تاريخها القريب في الاحتلال في أفريقيا وغيرها مع عدم اعتذارها للشعوب التي ارتكبت بحقهم مجازر، بل عدم تعويضهم، والاستمرار في فرض نفوذها على الدول التي سبق لها احتلالها يدل على أنّها لم تنبذ العنف كاملًا على مستوى الإمكان والفعل.

العنف موغلٌ في التاريخ الفرنسي، فمنذ 200 عام، وفي الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م دخلت الخيول الفرنسية الأزهر وقتل الجنود الفرنسيون كثيرًا من الطلاب والشيوخ، ثمّ حوّلوا الأزهر إلى إسطبلٍ للخيل، حتى قَبِل نابليون التفاوض وأمر جنوده بالجلاء عن الأزهر، وألقى القبض على علمائه وقطع رؤوسهم. تخبرنا هذه الواقعة كثيرا عن العنف الفرنسي، ثمّ يخبرنا تاريخ فرنسا في أفريقيا بخاصة الجزائر عن العنف الدامي غير المسوّغ الذي ارتكبته. وقد كتب فرانز فانون المفكر الكاريبي الذي شهد الاحتلال الفرنسي عن خطاب تسويغ العنف الفلسفي الفرنسي في كتابه "المعذبون في الأرض" المنشور عام 1961.

تخبرنا واقعة اقتحام نابليون للأزهر الشريف

كذلك عن مدى الاستهزاء بمقدسات الآخرين، بل استنكار غضب هؤلاء الآخرين عند انتهاك مقدساتهم وحرماتهم.

بعد 200 عام يجد الرئيس الفرنسي ماكرون صعوبة كبيرة في تفهم وتقدير عواطف ملايين المسلمين ودوافعهم تجاه مقدساتهم، ويستنكر بشدة فعل مقاطعة البضائع السلمي ويصفه بأنّه "جنوني" و"غير لائق" و"مدان" بل يقيس هذا الفعل على فرنسا، فيقول "هذا لا يصحّ في بلدنا" في محاولة لتدريس ملايين المسلمين بمَ يجب عليهم أن يشعروا وكيف عليهم أن يتصرفوا.

احتوى خطاب ماكرون على العديد من العبارات الآمرة للمسلمين، فيقول في بداية مقابلته "هناك ما يجب على المسلمين أن يفهموه"، ثم يعقبه بشرح عن حرية الصحافة ومبادئ التنوير، في حين أنّه هو من خلط بين قمع الصحافة، واختيار ملايين المسلمين طواعية احترام مقدساتهم. بل يجد الرئيس الفرنسي صعوبة بالغة في احترام حقوق الآخرين في الفعل السياسي المؤثر عبر وسيلة المقاطعة السلمية كما أسلفنا، بل يجد صعوبة بالغة في التفكير المنطقي السليم الذي يمنع "التعميم" من دون استقراء شامل، إذ يقرر وصف الإسلام كله في عبارة في خطاب عام في بداية أكتوبر/تشرين الأول فيقول:

"الإسلام دين يعيش الآن أزمة عميقة في كلّ أنحاء العالم".

وحين واجهه المحاور بهذه العبارة، رد بأنّ "مجموعات" تصف نفسها بالإسلامية تقوم بأعمال عنف أودت بحياة ضحايا 80% منهم مسلمون. لا يمكن تسويغ عبارة شديدة العمومية بهذه الصورة تتكلم عن دين له تاريخ وجغرافية شاسعة وأتباع بالملايين، يلقيها الرئيس الفرنسي على شعبه الذي لا يعرف كثيرًا عن الإسلام والمسلمين، إلا أنها خطاب يكرّس الخوف من الإسلام بالفعل.

يؤكد جان فرانسوا بايار أستاذ علم الاجتماع السياسي الفرنسي أنه:

"سواء أحب المسؤولون مصطلح الإسلاموفوبيا أم كرهوه فلا بدّ من أن يدركوا أنّه أصبح بالفعل جزءًا متجذرًا في سياسة فرنسا".

في الحقيقة، فإنّ خطاب ماكرون المملوء بالأوامر والتوجيهات والتوصيات والتعميمات يجد له أساسًا في الفلسفة الفرنسية. كان إرنست رينان (1823-1892) الفيلسوف الفرنسي التنويري منظّرًا لنظرية تفوق العرق الأبيض على غيره من الأعراق. يقول إرنست رينان في كتابه "محاورات فلسفية" إنّ "عدم تساوي الطبقات" سرّ تقدم البشرية، ويدّعي في كتابه هذا أنّ الأفارقة غير قادرين على إقامة حضارة، ويؤسس لتفوق العرق الأبيض الفكري والفلسفي الذي تقع على عاتقه مهمة "التنوير". سقطت هذه النظرية في اختبارات البحث العلمي في القرن الـ20، ولكن أثرها بقي في السياسة والخطاب والاجتماع، بل في خطاب الرئيس الفرنسي الأربعيني "إيمانويل ماكرون" في القرن الـ21.