إعلانات

لماذا لم أكتب عن أبي ؟

اثنين, 22/04/2024 - 08:13

اتصل أحد الأقارب مستفسرا عن صحة الخبر ( ذا ال سمعت حك ؟ )  ..

قبل أيام تأملت صورة ملتقطة للوالد في مجموعة خاصة بالعائلة ، بدت ملامحه متعثر لكن وجهه لا يزال وضاء كما كان .
لست أدري ما الذي جعل تلك الصورة تشغل بالي ليلتها ، لكنني عللت ذلك الإحساس باختلاف زوايا الصورة والإضاءة وانواع الهواتف ، وخصوصا أنني كنت أطمئن على أخباره كل يوم .

حين تساءل قريبي عن صحة الخبر ، قفزت إلى ذهني تلك الصورة مباشرة لكنني لم اشعر بالفزع .

- عن أي خبر تتحدث ؟

وفي لحظات تداعت مسيرة عمري للوراء لأقف على أعتاب طفولتي .
وحده استدعاء كهذا قد يمنحنا القدرة على البكاء .

تفهمت سبب إحجام إخوتي عن نشر الخبر في المجموعة أو حتى الاتصال بي مباشرة لحظة رحيل والدي .
فلا أحد بينهم يمكنه توقع المترتب على صدمة كهذه .
فقد عاش والدي سنواته الأخيرة متمسكا بنصف ذاكرته ، وكنت أنا من يحتل جل تلك الذاكرة .
أخبرتني والدتي حفظها الله أنه كان يطلب منهم عمامة لي ( حولي راص ) تركتها في دولاب منسي لكن ذاكرته أيقظت تلك العمامة من عزلتها .
كان يشمها ويقول ( هذي أمالها رائحة محمد ) ، وبين الفينة والأخرى كان يسأل عن تلك العمامة ويطلبها منهم .

لقد كان وفيا لتقاليد التماسك العاطفي المعروفة عن مجتمع البظان ، لكنه كان شفافا لدرجة تكشف سعادته من بريق عينينه حين يلمح أحدنا أو يمازحه .
لقد كان أبا وفيا لأبوته لكنه كان يحمل بين جنباته قلب أم حانية .
قال ذات يوم بأنه أصبح يتفهم دوافع شرب البقرة لبول عجلها ، بعد أن أصبح أبا .

نعم .. لقد رحل والدي
هذا ما حدث ..
قبل سنوات من هذا الحدث المأساوي ، كنت أسير خلفه ونحن نتقدم في الصعود إلى بيت جدتي رحمها الله ( في الطابق الثاني ) ، وكان يتكئ بهدوء على عكازه المهيب وكنت خلفه تماما ، وفجأة تداعى للخلف فتلقفته بكل قوتي ليستعيد توازنه في خفة وبسرعة .
سألني ( اياك مانعطبت ) فأجبته ممازحا " أنت مانك ثقيل يوالدي " .

لقد خانته قدماه للمرة الأولى  ..
ولم أستقبل ذلك الموقف ببساطة على المستوى العاطفي .
 فقد اكتمل بلوغي في تلك اللحظة التي تعثر فيها ذلك الرجل القوي .
لقد جاب العالم مستكشفا وباحثا عن فرصة عيش كريم لعائلته .
لقد وفر لنا حماية لا توصف في ظروف وطنية وإقليمية ملتهبة ( لا يتسع الحديث لها الآن ) .
لقد كان ظلا وارفا لوالدته وأخواته ، وكان ملجأ لمهاجري السبعينات في ليبيا والنيجر والجزائر .
كان وسيطا وضامنا في كل مشكلة تحدث لمواطن موريتاني مع شرطة الحدود أو الأمن .
ظل بيته مفتوحا للمهاجرين هربا من جحيم الجفاف في السبعينات ووسيطا لهم في الإجراءات والحصول على وظائف وأشغال .

حدثني عن رحلة مضنية بحثا عن بنات صغار تركهم صديق له في الصحراء بين النيجر وليبيا  ليتكفل بكل إجراءات ترحيلهم لوالدهم في موريتانيا ، بعد أن وصلته أخبار ظروفهم الصعبة وانقطاع التواصل مع معيلهم .

اتذكر ليلة من ليالي غيابة حيث طال سهرنا في انتظار عودته حتى غلبنا النوم .
واستفقنا صباح اليوم التالي على صوته الحاني وهو يراضينا ببعض الحلوى .
فقد وصل متأخرا ومعه مجموعة من الموريتانيون في حال يرثى لها ( اقدامهم دامية ومرهقون وتبدو عليهم آثار تشبه آثار التعذيب ) .
عرفت لاحقا أنه قد تم ضبطهم من طرف حرس الحدود الليبي وهم يدخلون ليبيا في الرمق الأخير مشيا على الأقدام .
واتصل به بعض معارفه هناك وسافر لضمان إطلاق سراحهم ، وأشرف بنفسه على علاجهم وراحتهم حتى أبلغ كلا منهم مأمنه وغايته .

هذا الرجل له تاريخ حافل بمساندة الآخرين ونضال منقطع النظير من حل مشكلاتهم .

لقد شاهدت هذا الرجل القوي  للتو وهو يفقد توازنه وتخونه قدماه .
لقد بلغت في تلك اللحظة سن الشيخوخة  .

كنت أنا من أقنعه بإحكام قبضته على ذلك العكاز قبل سنوات قليلة .
لكنني في تلك اللحظة شعرت بالخجل من نفسي حين أعرت بعض وهنه لعكاز خشبي وأنا من بلغ طوله هذا في كنفه دون أن أشعر في يوم من أيام الدنيا بحاجة أو تأخر طلب بين يديه .

نعم .. كل هذا الخبر كان صحيحا

لقد توفي والدي على فراشه محاطا بعائلته دون مرض ولا ألم  ولا إشارة .
كان شقيقي مختار قريبا منه ، وقد انتابه الشك من هدوء بدأ يكتنف ملامحه ، فأخبر والدتي بذلك .
وحدهم رفاق العمر من يستطيعون رؤيتك من الداخل دون عناء .
جلست إلى جواره وبكت بحرقة كأنها طفلته ، وبدأت في تلقينه حتى أيقنت برحيل روحه الزكية .
قالت لي بأنها كانت تسمعه يردد خلفها ، لكنها وحدها من كانت تستطيع سماعه وهو صامت .
مسح شقيقي وجه ذلك الرجل الكبير حقا .
لم اشعر بالحزن ولم أستطع تمييز مشاعر غريبة في ذلك الوقت .

حدثت أستاذنا ومفكرنا وشاعرنا ناجي محمد الامام  عن ذلك الحزن الذي لم أشعر به وعن حزني حيال ذلك الشعور الباهت ..
فقال لي بأنه لم يستطع أن يرثي والدته ببيت واحد .

ففهمت بأن الحزن الذي لا نشعر به هو حزن أكبر من شعورنا .

رحم الله والدي ووالديكم وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى .

محمد افو