إعلانات

وللشرق ما يلائمه / المرتضى محمد أشفاق

ثلاثاء, 05/03/2024 - 02:06
  المرتضى محمد أشفاق

 

 

بدأ عتاد معركة رمضان الكبرى يصل.. حوايا ضخمة، مختلفات الأحجام، مشكلات الألوان، وعيس العصر تشق الطرق الصحراوية الوعرة، وتذرع الممرات الضيقة بعزم وإصرار لتحط عن ظهورها كثبان البلاستيك، والأدوات الرخيصة المسافرة إلى قلب السماء...

غزوة تشبه غزوات الصحون يوم ظهر البث التلفزيوني في هذه البلاد، لم ينج منها بيت فقير ولا غني..

ليس هذا عتادا ينفع الغ زي ين في معركة رمضان المنتظرة، وليس زادا ينتشل الجياع من محنتهم، ولا أكسية وأغطية تلف أجسام المرتعشين بين الثلج والنار..

أدوات منزلية رمضانية، متعددة تعدد التخصصات، منها المدور، والمسطح، والعاجن، والحارق، والطاحن، والمذيب، وغير ذلك مما يستعصي على أمثالنا نحن بقايا العصور المتقادمة حفظ اسمه، وذكره ذكرا صحيحا..

يجمع بين هذه الآلات التي تغزونا في عقر دارنا- وما غُزِي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا- تجمع بينها كَعاعةُ النسب، فهي من أراذل المتاع، لا تعمر إلا قليلا.. لو رأيتها منثورة ما ميزتها من لعب أطفال الفقراء التي يجمعونها من مكاب النفايات قِطعا غير مصنفة، ولا متجانسة، وقد لا تكون بنات جيل واحد..

حتى إذا مضى نهار رمضان إلا ثلثه، أو انقص منه قليلا، واشتد حره، وحسرت شمس عصره عن وجه زال عن حاملته الحياء، رأيت ربات الحجال يتصببن عرقا، كالمرتعشات فرقا، مشمرات عن أذرعهن، حاسرات عن رؤوسهن، وقد بسطن تلك الأدوات، وجردنها من لبوسها، متحلقات في جد، مقبلات في انبهار، تغلب متعتهن العجيبة بهذه الصنعة المرهقة حرا، وجهدا، وتكرارا ما يصيبهن من إرهاق، ولعله العمل الوحيد الذي لا يكلنه إلى عاملاتهن لأن فيه نوعا من الإبداع به يصبحن فجأة فنانات تشكيليات، ويُظهرن نبوغهن في توازن المقادير، والتمييز المبكر بين الجيد الناضج، والرديء المختل..

نعم هو شقاء يومي يسعدن به، سعادتهن بالإنجاب، ورؤية ابتسامات أطفالهن بعد آلام الوحم، والطلق، والمخاض..وقد فُطر الإنسان على غريزة حب الخلق..

أما الأشكال فلا قبل لنا معشر الكهول بمعرفة أسمائها، ولا بالنطق الصحيح بها إذا استرقنا السمع إلى أحاديث الأطفال عنها، ففيها المثلث الأصفر كتمائم الجمال، وفيها نشرات رقيقة رخوة تشبه طبول الأرانب.. وفيها ما دون ذلك، ويشبه ما يدعوه أهل البادية كسرة الرعاة.. وبعضها مطويات ملفوفة على حمضيات حارة، تشبه مساويك الهلج، تدخل في أصول الأسنان، وتوقظ وخزا ثقوب الأضراس المسوسة..

والغريب أن لكل شكل آنيته الخاصة، فلا عدوان بينها، ولا خصام، ولا زحام..

وإذا كنت ضيفا احتجت إلى دليل، ومتخصص في أصناف المكسرات، وقبائل المرطبات، وشرائح النشويات، ليرشدك إلى مقدار ما يحسن أخذه، وترتيب تناولها، وفترات الصمت الأكلي بينها.. لذلك لا بأس في القيام بورشات، وبعثات تحسيس تعلم الناس كيف يتناولون الوجبات الرمضانية..

والمؤسف أن مُعِدَّات المائدة الرمضانية مع نصبهن، قليلات النصيب منها، فمُعِد الشيء عادة لا يحبه، أما هن فقد قضى التعب والجهد على شهيتهن، وأصبحت حاجتهن إلى الراحة ألح من حاجتهن إلى الطعام، والغريب ان ذلك لا يزيدهن إلا رغبة، وإصرارا على مواصلة ذلك الشقاء الرمضاني الذي يسعين إليه في قابل، ويجدن فيه فرصتهن للإبداع، والإنجاز..

دفعنا الفضول مرة، وبإلحاح بعض المؤاكلين إلى تذوق بعض أصناف الأطباق الرمضانية الحديثة، فمجحناه بسرعة، وأنكرته ألسنتنا، وتذكرت الرقائق المنتشرة في بعض مطاعم العاصمة، ويسمونها ترويجا(خبز العرب)، والحق أنها نشرات بسمك متوسط، وطبقات من لفائف رقيقة أقرب إلى أردإ أنواع المناشف اليدوية (اكلينكس)، لا طعم لها، ولا رائحة..

وإنك لترى المدني المزعوم منا يعالج مضغ تلك اللفائف ليريك أنه يستطيبها، وأنه صار شخصا حداثيا حتى في مأكله ومشربه، ووالله إنه لكاذب، بل يغالب القيء حتى لا ينفلت من فيه على الصحون..

أيها الناس ما كل قادم من الشرق يلائمنا، جربنا العباءات النسائية، فكانت على نسائنا أجساما أجنبية غريبة، تبدي من أجسادهن ما كان خفيا فتحددها وِهادا، ومرتفعاتٍ، ومنخفضات، وجربنا قمصانهم الطويلة، وسراويلهم فوجدناها لا تلائمنا، وتكشف عوراتنا كلما وقفنا بالأبواب، أو مررنا أمام الأضواء، فلأجسامنا تضاريسها الخاصة، ولأجسامهم تضاريسها الخاصة، ولمعدنا، وألسنتنا، وشهياتنا، أذواقها الخاصة، وللشرق ما يلائمه من تلك الأذواق..

فأغنياؤهم يجدون اللذة في عدم اللذة، لأنهم اعتادوها، وملوها، وعافتها ألسنتهم، وصاروا يبحثون عن الراحة في المشقة..أما نحن الفقراء فلا نحتاج إلى الماسخ لنستريح به عن اللذيذ، ولا نحتاج المُر لينسينا رتابة الحلو، ولا الإرهاق لنستريح به عن ملل الراحة والبذخ..

دعونا ووجباتنا، لنأكل ونشرب كما كان آباؤنا يأكلون، ويشربون..