العالم العامل العلامة يابه ولد محمادي السملالي (موقع السبق الإخباري الموريتاني)
يوم الجمعة في الثامن من شوال لعام 1444هـ رأيت نعيا مبهما على صفحة أستاذنا الشيخ معروف ول لمرابط، وأسرعت باحثا عن المتوفى، وقلبي على يدي خوفا من أن يكون الراحل أحد الأعلام الذين تنثلم بوفاتهم مباني الشريعة، وتنطمس بغيابهم معالم الإحسان، ولم أكد أقلب صفحة أو اثنتين من صفحات الأصدقاء في موقع فيسبوك حتى رأيت صورة العلامة الورع يابه ولد محمادي السملالي بوجهه المستنير ولحيته الكثة الوقورة، فأيقنت أن خوفي دون حجم المصيبة فهذا لمرابط يابه يودع الدنيا الفانية بهدوء في يوم جمعة مبارك بعد انقضاء رمضان و6 من شوال.
يختار الله لعباده الصالحين أوقاتا فاضلة ينتقلون فيها من دار الفناء إلى دار البقاء وما أعده سبحانه للمتقين، الذين نحسب الشيخ يابه أحد أعلامهم في زماننا، فقد كان الشيخ يابه شجرة وافرة الظلال طيبة الثمار من ذلك الغرس المبارك الذي تعهده العلامة محمد سالم ولد ألما (ت 1383هـ) بالسقي بماء العلم الزلال، وصانه بالتوجيه العملي حتى أبصر مقامات الإحسان واقعا حيا في جنبات "تندكسم" تجسده يوميات لمرابط محمد سالم وكوكبة من بني عمه الأعلام الأبرار الذين خالط الإيمان بشاشة قلوبهم ونهلوا من حياض العلم المترعة في محظرة شيخ القطر وسيبويه العصر العلامة يحظيه ولد عبد الودود (1359هـ) فكانت صلاتهم ونسكهم ومحياهم ومماتهم لله رب العالمين، كما كانوا في تلك المحاظر ومساجدها "معلمين لوجه الله كلهم".
أقام العلامة الشيخ يابه ولد محمادي مع شيخه ولد ألما يحضر دروسه ويقتبس من أنواره المشرقة ويتلقى أنفاسه الطيبة، ويتشرب مميزات وخصائص محظرته
أقام العلامة الشيخ يابه ولد محمادي مع شيخه ولد ألما يحضر دروسه ويقتبس من أنواره المشرقة ويتلقى أنفاسه الطيبة، ويتشرب مميزات وخصائص محظرته، فميزة محظرة يحظيه وما تفرع عنها من المحاظر المباركة ليس التفنن في العلوم وإتقان المتون فقط ولا ترداد أقوال العارفين، بل ميزتها الأساسية التي جعلت بركاتها تنتشر وأنوارها تسطع داخل القطر الشنقيطي وخارجه الإخلاص ومبدأ التربية بالحسنى وضرب المثل في القدوة، هكذا كان العلامة يحظيه بشخصيته الآسرة ونموذج تدريسه الفذ وأمثلته التي يقرب بها المعاني البعيدة لطلابه، ثم سيرته في العبادة والعمل التي شاهدوها عدة عقود وهي في تصاعد مستمر من الإقبال على الله والإعراض عن زخارف الدنيا، وتعليم الناس الخير ابتغاء وجه الله.
ذلك الإخلاص الذي عليه المدار في حياة يحظيه كان هاجس ولد ألما حين يقضي كامل يومه وصدر ليله بين التدريس والعبادة ثم يتأوه منشدا بحسرة:
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة .. على غير سلمى فهو دمع مضيع.
كان ابن ألما -كشيخه يحظيه- جامعا بين قوة التأثير في طلابه بإتقانه الفنون والعلوم وتدريسه البارع لها، وشمول التأثير في عموم الناس بمتانة دينه واستقامة سلوكه وحسن إنابته، وذلك التأثير هو المقصود بقول العلامة مؤرخ موريتانيا المختار ولد حامد (ت1414هـ) في رثائه له:
بالقول يوقظهم بالحال ينهضهم .. حتى غدوا أمة بالحق يهدونا
تضلعوا من علوم الدين عن ثقة.. قل النظير لهم في هذه الدونى
تضلع يابه على يد شيخه ولد ألما في محظرة "تندكسم" من العلوم الشرعية المقررة في الدرس المحظري من متون الفقه المالكي كمختصر الشيخ خليل بن إسحاق المالكي وشروحه وما يدرس قبله من المتون
ومن هؤلاء المتضلعين الذين أرشدهم ولد ألما بقوله وأنهضهم بحاله، وساروا على خطاه شبرا بشبر وذراعا بذراع، العلامة يابه ولد محمادي الذي "ملأ عليه شيخه لمرابط محمد سالم أركانه فكان يتمثل شخصيته وسلوكه وحركاته وسكناته، كما كان يفعل تلاميذ العلامة يحظيه ولد عبد الودود معه"، كما يقول نجباء تلاميذ يابه والمقربون منه، ويضيفون أن شيخهم يابه كان "يهتز طربا إذا قال في أثناء الشرح: هذه ألفاظ لمرابط"، وهي ألفاظ مختصرة موجزة تنمي الملكات وتشرح المتون بسلاسة أنضجها التكرار في أعرشة الطلاب وفي ظلال الأشجار وباركها الإخلاص من شيخ:
عاش في طاعة ثمانين حولا.. يعبد الله بكرة وعشيا
ينظر الغافلون ما هو فيه.. فيخرون سجدا وبكيا
كما يقول عالم البلد وعلامته لمرابط محمد سالم ولد عدود (ت 1430هـ) في رثاء ولد ألما.
تضلع يابه على يد شيخه ولد ألما في محظرة "تندكسم" من العلوم الشرعية المقررة في الدرس المحظري من متون الفقه المالكي كمختصر الشيخ خليل بن إسحاق المالكي وشروحه وما يدرس قبله من المتون، وتوسع مع كتب الأقضية ونوازل علماء البلد ومنطقة الغرب الإسلامي من معيار الونشريسي ونوازل "حبر مازونه"، وفي النحو وعلوم اللغة درس طرة العلامة المختار ولد بونه الجكني (1220هـ) التي كان ولد ألما "يقرئها… حتى يرى الحاضرون النار تضطرم"، وما يتداول من أشعار الستة الجاهليين ومن دونهم من شعر غيلان وغيره، ثم مثلث ابن مالك وغيره من المتون اللغوية والأشعار التي يستعذبها الطلاب لا سيما شروح الشواهد.
وفي البلاغة، درس على شيخه نظم عقود الجمان لجلال الدين السيوطي (ت911هـ) وطرة العلامة محنض بابه ولد اعبيد الديماني (ت 1277هـ) عليه، وفي المنطق "السلم المرونق" للأخضري (ت 953هـ)، "والطيبية" وهي المنتهى في مقررات الدرس المنطقي في بلاد شنقيط، وفي الأصول ورقات إمام الحرمين ونظم الكوكب الساطع للسيوطي الذي تميزت محظرة اليداليين بالاهتمام به وللشيخ ابن ألما شرح عليه، أما حفظ القرآن ودراسة علومه ومقررات السيرة النبوية كالمغازي وغيرها، فالغالب أنها تدرس في البيئات العالمة قبل تغرّب الطلاب عن ذويهم، وكانت محظرة يابه جامعة بين تدريس علوم القرآن والمتون العلمية العالية، ومنها تخرج قراء كبار وحفظة مشهورون كما يأتي.
وفي علوم الحديث، درس المرحوم يابه ألفية الإمام السيوطي في المصطلح، وكان في محظرة تندكسم اهتمام بالحديث؛ فالعلامة محمد سالم ولد ألما كان ممن "اهتم بالأحاديث المشتهرة والبحث في صحتها"، كما يقول المرحوم الدكتور محمد المختار ولد اباه في كتابه "تاريخ علوم الحديث في المشرق والمغرب"، وذكر له تأليفا بعنوان "نفي الجهل والعمى" حول "أحاديث مشتهرة ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات، واستدرك عليه السيوطي في بعضها" (ص 720)، وفي ترجمة ابن ألما المختصرة في صدر مراثيه أن له كتابا بعنوان "كشف الأغطية والأستار عن الموضوعات من الأخبار"، كما له مؤلفات حديثية عملية مثل "حفظ المهج" في أذكار الصباح والمساء، والرقى، وأخرى مثل "سبائك اللجين في الصلاة على النبي الأمين"، و"الشفا فيمن برئ على يد المصطفى".
أخذ الشيخ يابه الإجازة المطلقة في مرويات ومسموعات شيخه العلامة ولد ألما، فهو أحد أبرز خريجي محظرته والسائرين على نهجه في العلم والورع والزهد والتدريس المتواصل، لم يشأ يابه أن يقيم بعيدا عن العاصمة الموريتانية الناشئة، بل اختار أن يكون مركز إشعاعه داخلها فاتخذ من الجزء الشمالي من مدينة نواكشوط مكانا جعله مثابة لطلاب العلوم، فأسس فيه محظرة وجامعا، وألقى عصاه في تيارت يدرس ويرشد، فخرجت محظرته مئات الحفاظ لكتاب الله الكريم والمتفقهين في أحكام دينهم والشادين للأدب والفتوة.
الشيخ يابه وإن كان لم يؤلف بسبب انشغاله المتواصل بالتدريس فإنه أحيا تراث علم من أعلام المجال الشنقيطي؛ لم تكن كتاباته تكرارا ولا اجترارا، فـ"مؤلفات يابه الحقيقية هي تحقيقاته وشروحه لأعمال الشيخ محمد المامي، فهو صاحب الدور الرئيسي في ذلك
كما خرّجت محظرة نور العلم عددا من العلماء الأفذاذ والأنجاب المتميزين علما وخلقا وعطاء وموسوعية، منهم ابناه الأول الشيخ أحمد الذي أكمل العلوم والفنون في محظرة والده، لكن غلب عليه الزهد والتواري وكان رفيق والده في الصحة والمرض، والثاني الدكتور النابغة القارئ بالعشر المؤرخ الأديب الناقد والعلامة المتفنن الموهوب أحمد كوري ولد يابه أحد أعمدة البحث الأكاديمي الجاد والتحقيق العلمي الرصين في الجامعات الموريتانية، الجامع بين جزالة تدريس المتون وصرامة المنهج الأكاديمي مؤلف عدة كتب، منها "مناهج القراء في اختيار المقدم في الأداء"، و"الرواية الشنقيطية من الألفية والشواهد النحوية: التحوير والتفسير والتأثير" ومحقق كتب أخرى، ومنهم العالم المتفنن والخطاط القارئ بالسبع واللغوي العتيد أبو الخط الأحمر وأخو الإضمار البلاغي والأديب الشاعر الدكتور محمد الأمين السملالي السائر في المشرق على نهج أسلافه الشناقطة الألى.
ومنهم الأخوان العزيزان والعالمان المتقنان الشيخ الشاعر المحب محمد معروف ولد المرابط صاحب تآليف منها "منح الرحمان في نظم ما نثره النووي في التبيان"، وأنظام بديعة وقصائد مديحية وبصر بأخبار الرجال وتراجمهم في بلاد شنقيط، وهو سائر على نهج شيخه في التفرغ للتدريس، وشقيقه الصديق الأستاذ الشاعر الباحث المتمكن المعلوم ولد المرابط الخبير كسابقيه في التاريخ الثقافي الشنقيطي والمتخصص في تراث العلامة الشيخ محمد المامي ولد البخاري.
وفي الحديث عن الشيخ يابه ومحظرة نور العلم، لا بد من التعريج على ذكر تراث الشيخ محمد المامي والإشادة بالبلاء الحسن الذي قام به العلامة يابه في إحياء هذا التراث الثري، فالشيخ يابه وإن كان لم يؤلف بسبب انشغاله المتواصل بالتدريس فإنه أحيا تراث علم من أعلام المجال الشنقيطي؛ لم تكن كتاباته تكرارا ولا اجترارا، فـ"مؤلفات يابه الحقيقية هي تحقيقاته وشروحه لأعمال الشيخ محمد المامي، فهو صاحب الدور الرئيسي في ذلك، إلى جانب خليله وشقيق روحه الشيخ محمد ولد أحمد مسكه"، فعلى الشيخ يابه ورفيق دربه هذا كان الاعتماد في تحقيق ديوان الشيخ محمد المامي ومؤلفاته التي اكتمل تحقيقها ونشرها تقريبا، فقد كان يابه يبذل في سبيل تحصيل المخطوطات المامية الغالي والنفيس، كما كان بصيرا بمقاصد الشيخ محمد المامي عليما برموزه التي ينثرها في كتبه فكان لديه مفتاحها وهو المرجع فيها.
فبين تعليم الناس الخير وتخريج أفذاذ العلماء وعمارة الوقت بالطاعات والقرب ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والابتعاد عن السلطان ومباهج الدنيا ومفاتن دار الفناء، والسعي في مصالح المسلمين ونشر تراث علم من أعلام الأمة قضى الشيخ يابه المولود نحو 1348هـ/ 1930م عمره التسعيني مقبلا غير مدبر، يزرع محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلامذته، ويعلم الناشئة من رواد محظرته صغار العلم قبل كباره، ويؤهل الكبار منهم لتحمل أمانة العلم، ويفتي عموم من يأتي مستفتيا، لا يبتغي بكل ذلك جزاء ولا شكورا، فالله يجزل مثوبته ويلحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فلتلامذته الخريجين الأنجاب المذكورين صادق عزائنا ومواساتا وهم نعم الخلف، وللصديقين العزيزين الإمام النبيل محمد ولد شداد والفتى خالد ولد الداهن عزاء خاص، فمنهما سمعت بأذن واعية أخبار الشيخ يابه وحاله مع الله والناس في أيام عطل المحظرة وحين تباهي الطلاب بأشياخهم، وما أظن أحدا مر على الشيخ يابه إلا ترك فيه أثرا حسنا، وتلك ميزة المدرسة "اليحظيهية" التي عض عليها المرحوم يابه بالنواجذ فما حرّف ولا بدّل. والله حسبنا ونعم الوكيل.