إعلانات

الفلسطينيون ينعون "أبو عبيدة".. الملثم الذي هزم المنظومة الأمنية والإعلامية الإسرائيلية

اثنين, 29/12/2025 - 18:09

الناطق باسم كتائب عز الدين القسام الشهيد حذيفة سمير الكحلوت "أبو عبيدة" (الجزيرة)

 

رائد موسى

 

غزة- نجح أبو عبيدة كما لم يفعل أحد من قبله، وتجاوز النجومية النمطية وخلق لنفسه مكانة في قلوب الملايين حول العالم، الذين عشقوه من خلف كوفية حمراء تحجب وجهه، فعشاقه لم يجذبهم اسمه أو هيئته بقدر ارتباطهم بحالة من الأمل والقوة والصلابة، كان يبثها كناطق عسكري باسم كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).

التصق به لقب الملثم، وقد أضاف للكوفية للحمراء رمزية، وبات أشهر من توشح بها للتخفي، وتحول إلى أيقونة تجاوزت تنظيمه وحدود الجغرافيا، وكانت خطاباته مرتقبة يطل من خلالها على الناس في المنازل والمقاهي، والكل يترقب بصمت ماذا سيقول وماذا سيعلن في ظهوره النادر.

امتلك أبو عبيدة من فصاحة اللغة العربية ما جعلته مقاوما على جبهة الإعلام العسكري، وبحسب خبراء ومتابعين، كانت كلماته "قاتلة للعدو كالرصاص"، ويمتلك يقينا تعكسه كلماته الثابتة والموحدة التي يختم بها كل خطاباته "وإنه لجهاد.. نصر أو استشهاد".

إرث خالد

صمت صوته بإعلان كتائب القسام، اليوم الاثنين، رسميا عن استشهاده في عملية اغتيال نفذتها مقاتلات حربية إسرائيلية بقصف منزل كان يتواجد به في مدينة غزة قبل بضعة أشهر، لكن إرثه سيبقى خالدا، وهو الذي كان يقول "يخلف القائد قادة، ويخلف الشهيد ألف مقاوم.. هذه الأرض تنبت المقاومين كما تنبت أشجار الزيتون".

وورث متحدث جديد باسم كتائب القسام كنيته ذاتها "أبو عبيدة"، ونعاه باسمه الحقيقي "حذيفة سمير الكحلوت" وكنيته الحقيقية "أبو إبراهيم"، وعدّد مناقبه وسيرته الجهادية على مدار نحو عقدين من توليه مسؤوليته كناطق باسم الكتائب.

صنع الشهيد لنفسه نجومية من نوع فريد، لم يطلبها ولم يسع وراءها، وستدوم طويلا، وتحمّل من خلفه مسؤولية ليست سهلة بأن يملأ فراغا كبيرا تركه "الملثم".

وبعد عملية "طوفان الأقصى" التي شنت إسرائيل على إثرها حربا مدمرة على غزة، تحمل أبو عبيدة مخاطر الظهور بإطلالات بكامل هيبته المعتادة، مرتديا زيا عسكريا مموها، ومقنعا بالكوفية الحمراء وعلى جبينه عصبة خضراء عليها اسم "كتائب القسام".

كانت هذه الإطلالات فسحة أمل بالنسبة للغزيين، يترقبونها بصبر كبير، ويتعرفون من خلالها على سير المعارك على الأرض، وإنجازات المقاومة رغم شراسة العدوان.

شخصية فريدة

يقول الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا للجزيرة نت "لا شك أن شخصية أبي عبيدة فريدة بالرمزية التي تمتع بها، من خلال محافظته لسنوات طويلة على هيئته ولباسه العسكري ولثامه".

كان الشهيد شديد الحرص على هيئته وظهوره الأنيق، بقدر حرصه على شكل الخطاب العسكري وتوقيته، والكلمات والمضامين التي كان يلقيها باستمرار، علاوة على نجاحه طوال هذه المدة في عيش حياة سرية في الظل، بكل ما لها من خصوصية وثقل ومسؤوليات، وفقا للقرا.

وأشار إلى أنه حافظ على الظهور في أوقات كانت فيها إسرائيل تسعى للوصول إليه، غير أنه كان يدرك -رغم المخاطر المحدقة به- أن ملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمحبين ينتظرونه، لثقتهم فيما سيقوله ويعلنه.

ومنذ ظهوره الأول في مؤتمر صحفي من داخل مسجد "النور" شمال قطاع غزة، خلال معركة "أيام الغضب" عام 2004، أدخل أبو عبيدة نفسه في دائرة محكمة من السرية والخصوصية، ولم تفلح محاولات استخباراتية إسرائيلية في دفعه لمغادرتها أو إفقاده اتزانه.

توالت السنين مع كل ما حملته من تطورات وأحداث وحروب، وظل الشهيد محافظا على ثبات حضوره وصورته، وحتى نبرة صوته ومفرداته التي ينتقيها بعناية، ويدعمها بالآيات القرآنية، وبلغة جسد يميزها استخدامه الدائم لأصبع السبابة مع حركة ساعده الأيمن، لتعكس ثقة وتبث الطمأنينة رغم قسوة الواقع.

 

هيبة وخصوصية

ينحدر الشهيد حذيفة الكحلوت من قرية "نعليا" داخل فلسطين المحتلة، التي هُجرت منها عائلته إبان النكبة في العام 1948، وسكنت مخيم جباليا للاجئين شمال غزة.

ووفقا لمصادر فلسطينية وإسرائيلية، فقد تعرض لعدة محاولات اغتيال، وقصفت مقاتلات إسرائيلية منزله أكثر من مرة، بداية من الحرب الأولى على القطاع في عام 2008، مرورا بحربي 2012 و2014، وحتى محاولات تصفيته خلال الحرب الحالية.

وحسب تقرير نشره الموقع الإلكتروني لصحيفة "يديعوت أحرونوت" في 25 يوليو/تموز عام 2014، فإن هذه الحياة المعقدة لأبي عبيدة لم تمنعه من استكمال دراسته الجامعية، وحاز في العام 2013 درجة الماجستير من كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية في غزة، عن دراسة بعنوان "الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام". وأشارت إلى أنه كان يعد لنيل درجة الدكتوراه في السياق نفسه.

وتحدث المحلل السياسي إياد القرا عن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها، من وراء نشر اسمه الحقيقي أو أي معلومات مرتبطة به، وظل ما تنشره في موضع شك لقدراته على التخفي، دون أن يتملكه الخوف من الظهور في أوقات كانت صعبة، خاصة خلال حربي 2014 و2023.

وبرأيه، فقد امتلك أبو عبيدة شخصية متزنة وحافظ على سرية زادته هيبة وخصوصية، وأسهم ذلك فيما كان يقصده بحرب نفسية استهدف من خلالها جيش الاحتلال والمجتمع الإسرائيلي، وقد عززها بمفردات ستظل ملكا له حتى بعد استشهاده، وستبقى مصطلحاته حاضرة، وقد عكست ما لديه من مخزون وموروث ضخم، خاصة فيما يتعلق بالأبعاد التاريخية والدينية، التي يستخدمها في إطار عسكري تعبوي.

ويعتقد القرا أن شخصية "أبو عبيدة" قد تكون أحد أهم أسلحة الدعاية أو الحرب الإعلامية التي استخدمتها حركة حماس في كل حروبها ومواجهاتها مع الاحتلال، و"مثلما كان الفلسطينيون والمحبون يترقبون إطلالاته، كانت مراقبة من قبل جيش الاحتلال وأجهزة استخباراته، وحتى من الجمهور الإسرائيلي، الذي عبّر غير مرة عن ثقته بمعلوماته أكثر من ثقته ببيانات جيشه".

ولفت المحلل السياسي إلى ظهور الناطق باسم كتائب القسام خلال مرحلة المجاعة التي عصفت بالغزيين، وقد بدا نحيفا، رغم محافظته على بنيته الجسدية العسكرية وهيبته، ونبرة صوته التي تجمع بين المرونة والبأس، وأضاف أن "هذا الظهور لم يكن عبثيا، وقد حمل رسالة أن المقاومة تعاني وتجوع كما شعبها".

وحسب القرا، فقد اكتسب الشهيد وزنا وثقلا محليا ودوليا، وحتى داخل الساحة الإسرائيلية، وبات ظهوره رمزيا لدى أحرار العالم، وهيئته بالكوفية الحمراء يقلدها المشاركون في مظاهرات نصرة فلسطين حول العالم.

منظومة كاملة

بدوره، قال الخبير في الشؤون الإسرائيلية مصطفى إبراهيم للجزيرة نت إن "أبا عبيدة بالنسبة لحركة حماس لم يكن مجرد ناطق إعلامي فحسب، بل كان منظومة كاملة، وكان لديه فريق خاص واكتسب خبرة طويلة على مدى سنوات".

وأكد أنه "كان يتمتع بقدرات إعلامية، وهو جزء من القيادة العسكرية لكتائب القسام، ويمتلك المعلومات ويشارك في صناعة الخطاب العسكري الإعلامي، وصياغة الرواية في إطار حرب الوعي".

واعتبر أن استشهاده خسارة كبيرة للحركة وللمقاومة الفلسطينية، بكل ما يمتلكه من شخصية قوية واثقة، وخبرات راكمها على مر السنين، وقدرة على إيصال الرسالة بأقل كلمات وبلغة جسد مميزة، وقد شكل حالة فريدة لن يكون سهلا صناعة بديل لها.

وقد طغى تأثير أبي عبيدة -وفقا لإبراهيم- حتى أنه تجاوز دوائر المحبين، "وبات الجمهور الإسرائيلي يترقب خطاباته، ويتابعها لمعرفة التطورات، فيما الدوائر العسكرية والأمنية تتابعها بالتحليل، بغرض الملاحقة والتصفية، وهي التي حاولت في 4 مرات سابقة اغتياله وفشلت".

ويعتقد أن شخصيته جديرة بالدراسة كحالة إعلامية أثرت بالوعي الإسرائيلي، ورسمت خطوطا مهمة في مواجهة رواية الاحتلال.

وعن عملية الاغتيال، يرجّح الخبير العسكري اللواء متقاعد يوسف شرقاوي للجزيرة نت أن إسرائيل ربما تكون قد لجأت للذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والتتبع الإلكتروني، بعدما فشلت في محاولاتها السابقة من الوصول إلى أبي عبيدة.

المصدر: الجزيرة