إعلانات

تشييع سيون أسيدون.. يهودي مغربي نذر حياته من أجل فلسطين

اثنين, 10/11/2025 - 02:20

الرباط – “القدس العربي”:

رغم تشييع جثمان الناشط اليهودي المغربي، سيون أسيدون، الأحد في المقبرة اليهودية في الدار البيضاء، فإن الحديث عن هذه الشخصية لم ينقطع، لا سيما بالنظر إلى مسارها النضالي المميز باعتبارها مناصرة للقضية الفلسطينية، وكذا بملابسات وفاتها التي جاءت بعد غيبوبة دامت أكثر من شهرين، نتيجة تعرض الراحل لحادث في منزله.

واستحضر المتتبعون مسيرته اللامعة في الدفاع عن فلسطين، عبر العديد من المحطات البارزة في حياته، ومنها خطواته الأخيرة في درب النضال والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، حيث كان أحد أبرز وجوه حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها “بي دي أس”، كما شارك في “الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع”.

 

وكان قد عثر على سيون أسيدون في منزله في حالة غيبوبة، فأُسعف على الفور إلى مصحة في مدينة المحمدية المجاورة للعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، حيث خضع لعملية جراحية عاجلة على الدماغ. بعد تدهور حالته الصحية، نُقل إلى مصحة أخرى في الدار البيضاء، وبقي في العناية المركزة لنحو شهرين، حتى أسلم الروح لبارئها.

وفور إعلان الحادث، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع إخبارية عدة روايات وأقاويل، بما فيها نظريات “المؤامرة”، ما دفع النيابة العامة في الدار البيضاء لإصدار بيان أول لتوضيح ملابسات الحادث اعتمد على نتائج البحث الذي أجرته الشرطة القضائية. وفي بيان ثان، كشفت النتائج الأولية للتشريح الطبي الذي أجراه فريق من الأطباء الشرعيين، أن الوفاة ناجمة عن مضاعفات تعفنية لإصابة رضية على الرأس، مع نزيف على مستوى سحايا المخ ورضوض مخية وكسر في الجمجمة، وهو ما يرجح فرضية سقوطه من السلم أثناء قيامه بتشذيب حديقته. وأكد البيان أن النيابة العامة ستتخذ القرار القانوني المناسب بعد انتهاء الأبحاث.

أسرة الراحل، من جانبها، وضعت إقامة الجنازة على رأس أولوياتها، وأصدرت بيانًا مقتضبًا، دعت فيه لإقامة مراسمها “في صفاء، وفي إطار عائلي وحميمي”، مع تفهمها لرغبة رفاق وأصدقاء أسيدون في المشاركة، لكنها طلبت أن تُقام أي تظاهرات سياسية خارج أسوار المقبرة، مؤكدةً ضرورة احترام خصوصية العائلة.

 

على الصعيد العام، تصدرت كلمات النعي مواقع التواصل الاجتماعي. حركة “بي دي إس المغرب” أكدت أن أسيدون كان “أحد أبرز رموز النضال ضد الاستعمار والصهيونية، وأحد الأصوات الحرة التي كرّست حياتها لمناهضة التطبيع والدفاع عن القضية الفلسطينية وكرامة الإنسان”، مشددة على أن “أمثاله لا يرحلون، لأن مواقفهم ومبادئهم ستظل تنير طريق الأجيال القادمة”. أما “الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع” فقد وصفت الحادث بـ “الغامض”، وأكدت عزمها مواصلة الضغط للكشف عن الحقيقة كاملة، مشيرة إلى أن أسيدون كان “مناضلًا أمميًا” ذا “تاريخ حافل ضد الاستبداد ومن أجل الديمقراطية”.

من جانب آخر، عبّر الصحافي توفيق بوعشرين عن حزنه قائلاً: “عزاؤنا واحد في ابن البلد والإنسانية والقضية الفلسطينية. لقد ترك وراءه أثرا طيبا في الوفاء للمبادئ والقيم التي تعلو على الانتماءات الدينية والعرقية والقومية، وأدى ثمناً من حريته بسبب قناعاته”. وأضاف: “ليس المهم كم نقضي من وقت على هذه الأرض، بل ماذا نترك من أثر بعد الرحيل. وسيون أسيدون ترك إرثًا طيبًا، نموذجًا للالتزام النضالي من أجل العدالة والفلسطينيين والحرية وحقوق الإنسان لكل إنسان”.

وصف الباحث الأكاديمي المعطي منجب وفاة أسيدون بـ “الكارثة العظمى”، فيما أكدت صفحة “صوت الطلبة”: “تسقط الأجساد لا الفكرة”، مشيرة إلى أن الفقيد المغربي من أسرة يهودية ظل وفياً للقضايا الإنسانية العادلة بما فيها القضية الفلسطينية. وكتب خالد البكاري نعياً قال فيه إن أسيدون كان “رجلًا انتصر على الانتماءات الضيقة، كان قلبه بحجم عالم لم يوجد، حيث لا ظلم ولا كراهية ولا تعصب”، مبرزًا أن “غيابه الأخير كان لحظة لتأمل الوفاء للإنسانية”.

وجمع الكاتب الصحافي محمد بوخزار باقة من المناضلين المغاربة من أصول يهودية، من بينهم آدمون المالح، شمعون ليفي، جيرمان عياش، وسيون أسيدون نفسه، مشيرًا إلى أنهم “آثروا ثرى الوطن قبورًا لهم، وظلوا أوفياء له”. أما الجامعي عبد الرزاق بوغنبور فوصف أسيدون بأنه “كان صوتًا حرًا حين خفتت الأصوات وبوصلة أخلاقية في زمن الالتباس”، مؤكدًا أن “أسيدون رحل وبقي الدرس: كن صادقًا مع نفسك، فتكون حرًا ولو كنت وحيدًا”.

وقال الصحافي محمد البقالي إن أسيدون “كان فلسطيني الهوى والانتماء”، وأضاف: “12 عاما قضاها في السجن من أجل مواقفه السياسية وحين خرج عام 1984 نذر حياته لفلسطين ولمواجهة التطبيع”. كما كتب الصحافي يونس مسكين: “الرجل الذي قضى عمره يطالب بكشف الحقيقة في ملفات التعذيب، والفساد، والتطبيع، لا يليق به وداع رسمي سريع، ولا خطاب جاهز عن “قضاء وقدر” يحذف الأسئلة المزعجة. أقل ما يستحقه هو ما كان يطالب به لضحايا لا يحملون اسمه: تحقيق جدي، وجواب واضح، واحترام لعقل من عرفوه ومن لم يعرفوه”.

في المقابل، أشار بعض الحقوقيين إلى وجود بعض الغموض حول ظروف الوفاة. أحمد وايحمان، رئيس “المرصد المغربي لمناهضة التطبيع”، صرح بأن “رحيل أسيدون محفوف بالغموض والألغاز التي تنتظر الكشف”، واصفًا الراحل بـ “ابن الشعب” الذي ربط مصيره بالقضايا العادلة للكادحين. أما الصحافي محمد سراج الضو، فاعتبر أن “بلاغ النيابة العامة يؤكد أن أسيدون (77 عامًا) سقط مغشياً عليه أثناء تشذيب حديقته، وهو ما أدى إلى إصابته في الرأس وغيبوبته الطويلة، قبل وفاته”.

مسار طويل من النضال

حياته الشخصية والسياسية تعكس مسارا طويلًا من النضال. ولد أسيدون في مدينة أغادير عام 1948، وانتقل مع عائلته إلى الدار البيضاء بعد الزلزال الذي ضرب المدينة. وهاجر إلى فرنسا لاستكمال دراسته في الرياضيات في باريس، حيث اعتنق الفكر اليساري، وعاد إلى المغرب سنة 1967. تزوج من فلسطينية أمريكية، وأصبح أحد أبرز مناضلي اليسار الماركسي المغربي، ومؤسسًا لمنظمة “23 مارس”، حيث تعرض للاعتقال وقضى أكثر من 12 سنة في السجن خلال السبعينيات والثمانينيات.

 

التاريخ المغربي الحديث يزخر بمغاربة يهود مثل أسيدون، الذين اعتنقوا القضية الفلسطينية، إلى جانب إبراهام السرفاتي، الذي أرسل معه رسالة إلى ياسر عرفات في صيف 1982، أثناء حصار بيروت، أكد فيها: “نحن جنديان في الثورة الفلسطينية”. إلى جانبهم، هناك أسماء وازنة مثل الأديب إدمون عمران المالح، والسياسي شمعون ليفي، والمؤرخ جيرمان عياش، الذين رفضوا الهجرة إلى إسرائيل وبقوا أوفياء لتراب الوطن، وانخرطوا في النضال من أجل الديمقراطية والعدل والمساواة، أو اعتنقوا اليسار كمذهب حياة.

قبل خمسينيات القرن الماضي، كان عدد اليهود في المغرب يتراوح بين 250 و350 ألف نسمة، بينما اليوم يقدر عددهم اليوم بين 2,000 و3,000 نسمة. وبعض الذين هاجروا إلى إسرائيل وصلوا إلى مناصب رفيعة، مثل ديفيد ليفي وعامير بيرتس، وكانوا من أشد مناوئي الحق الفلسطيني. لكن المغاربة اليهود الذين بقوا في مسقط رأسهم وموطن أجدادهم، المغرب، حافظوا على وفائهم للوطن والنضال من أجل الحقوق والعدالة.