
الدهماء ريم
.......ا
جلست قبالتي، يفصلنا عرض مكتب قديم وطول زفرة كئيبة من تجويف صدرها، سيدة ثلاثينية منحتها الحياة ألف سبب لتذبل باكرًا، انتعلت همها ذات شكاية وتوجهت شطر مصلحة النزاعات الأسرية التي كنتُ رئيستها.
وعلى المقعد المقابل جلس طليقها الذي استدعته،.. يملأ الصمت كل فراغٍ محتمل بين نظرتين مرتبكتين منهما لبعضهما.
كانت تَستقلُّ قيمة ما يمنحها من نفقة لأبنائها منه، وتتهمه بالتخلي عنهم.. فَصَّل الرّجل وعلَّل في دعواها، وأنْكَر جُملةً كل تفريط، وأنَّ ما يَقتطِع لها من نفقة يعتبره أكثر القليل حتى ولو اعتبرته هيَ أقل الكثير، وشرع يعدِّدُ لائحةً من تُهمٍ جيّدة الترتيب، كان قد أوْجَدها لنفسه بعناية وهي عذره في هجرهم، كما زكَّى براحة ضميرٍ روايته في خروجه عنها من باب الغياب الزوجي إلى حياة جديدة بعيدة!
مَدٌّ وجزرٌ بينهما، وتراشق مُقتضب وتأثيم، ثم تأزيم، فقد بدأ النقاش يتواثب صعودا ليذهب عكس هوانا، وهي حالة معتادة لدينا..
استنفرت السيدة ملامح هجومية، ألقت بذخيرة أخرى من التُّهم، وأخرى، وأيقظت تفاصيلَ من حُطام ذكرياتٍ وادعاءاتٍ لا علاقة لها بالنفقة.. فعلاقتها قد تكون بحصة مُخزَّنة من ألمٍ عتيق!
تسترسل ضيفتي في حرقةٍ تُحرّضها غَصّة التَّذكر وتستزيد، أنتَ وأنتَ وكُنتَ وصرتَ، وتمتَمات هامسة مسموعة بأوصافٍ يشملها الحظر، وتصريحات مدجَّجة بما لا يصلح لفظًا ولا يصحُّ عقلاً، وبين ذاك وذاك تلتفتُ صوبي مُجهَدَة، مُنكسرة، تُعوّل عليَّ في دعمٍ أو تصديقٍ، والرّجل يبتسم في ازدراء أصفر، يُداري إحراج الابتلاء الذي هو فيه.
تأخذُني حالة تَملمُل من المَشهد، وتتدافع الإشارات في دماغي، تعدو خلف لسانها من رصيفٍ لرصيفٍ،.. ثم أتدخَّل مُحاولةً إعادة توجيهِ مجرى أفكارها وألفاظها نحو ما قَدِمت لأجله: «ما علاقة هذا سيدتي بموضوع الشكاية وزيادة النفقة؟»، تردُّ متشنجة: «هذه فرصتي لأسمعه الحقيقة، فهو يقاطعني!».
أتساءلُ في صمتي الأصَمْ، لماذا استدعته الآن بعد أن أغفلته كل هذه السنين؟ .. أيعقلُ أنَّ عذر النفقة مجرد مِصيدة لاستدراجه، أو على الأفْصح للقائه؟،.. ربما انشغلت عنه سابقا بمعالجة أكوام همومها لحدّ ابعاده من حساباتها إلى حين، استنزفَ الكدُّ منها مخزون الأنوثة فما أبقى على أكثر من شبحٍ يُحاول التَّشبه بالنساء.. من نبرتها ونظراتها أُخمِّنُ أنَّ حنينًا مَا عاد ليَسْخر من مسافات العقل التي توالدت بينهما بفعل المُجافاة والمُجانبة،.. هذا الرجل ما يزال حاضرا في روحها رغم البغضاء المُعلنة، فكل كلمة دفعت بها أمامي لها أصلٌ في أحاسيسها وحكاية في شعورها، ولا يهمّها إنْ ضُبِطت متلبّسة بالحنين، فرغم ما تقذف من حِمم الألم، أرسلت إليه أكثر من نظرة وحيدة الاتجاه، وإنْ انكسرت مرَّات في منتصف التعبير، وكأنها وجدته فجأة بعد أن خسرته، .. ما لا يفهمه الرجل أنَّ نفسية المرأة بناء من ألف طابقٍ مطمور في صدرها، ولا تُظهِرُ منه المُكابرة إلاَّ طابقًا واحدًا.
كانت مثلُ هذه الحالات اختبارًا لي في فنِّ الاصغاء والتَّحمل، وإبقاء خواطري وانطباعاتي على مسافة حيَّادٍ من حرقة امرأة تقتنص فرصة نادرة بجعلنا مكبًّا علاجيًّا لإفراغ جُرحها من دمه وألمه.
ولربما استقدمته في آخر جولة تقريع منها له، ترجو فيها تشافيها النفسي منه، ولربما مازالت تأمل منه كلمة اعتراف بالجميل ولو تأخَّرت، أو جملة اعتذارٍ ولو قَصُرت وتلعثَمت، أو نظرة تَشوِّق تُلغي النسيان،.. أخَالُها محاولة أخيرة مع رجل اسكَنَتْه ذات موسمِ سعادةٍ بيتًا من أربع حُجرات دافئة هو قلبها،.. لكن شيئا من ذلك لم يكن، فوجودها على ما يبدو ليس أول غمامة صيف في سماء حياته!
مَثَّلت أمامي آخر مشهد تفريغٍ لشُحنات أعماقها، وسيُفضي التفريغ حتمًا إلى إحلال السلام في وجدانها بعد إراحته،.. كان المشهد فعل خَلاصٍ منه وإخلاصٍ منها لها، وحتى لوْ تأخَّر كثيرا، سيبقى قرارها مُهمًّا لفكِّ التعلق بطيفٍ هُلاميٍّ لظل رجل كان حبيبا وصار غريبا،..
وأما دليل تعافيها، فكونها أغفلت في خاتمة اللقاء علَّة شكايتها، تناستها!.. وقفت، تنهَّدت على مَهْلٍ، كمن اجتاز بنجاح الحدَّ الفاصل بين اغلاق مأتمه النفسي والأخذ بثأر قديم،.. ثم رحلت دون توديع!.
تحياتي.