
يوسف فارس (الأخبار اللبنانية)
ا يظهر شيء في سماء مدينة غزة سوى غبار المباني التي تطحنها القنابل الأميركية، والتي تتسبّب بانفجارات هائلة تهزّ أحياء المدينة بواقع انفجار كل خمس دقائق. ودمّرت الطائرات الحربية الإسرائيلية، أمس، 16 مبنى من بينها ثلاثة أبراج، ومباني «الجامعة الإسلامية» التي كانت تؤوي عشرات الآلاف من النازحين. وأغارت أيضاً على مخيمات إيواء في حي الكرامة، كانت تمثّل أكبر تجمع بشري في مناطق شمال غرب غزة، حيث تسبّبت ثلاث غارات بحريق هائل أتى على المئات من الخيام.
كذلك، انتقل الأسلوب الإسرائيلي من تهديد بناية تتوسّط حياً سكنياً، إلى تهديد مربعات سكنية واسعة، إذ يتّصل ضباط المخابرات الإسرائيليون هاتفياً، ويطلبون من سكان 100 منزل إخلاء منازلهم خلال خمس دقائق تمهيداً لضرب عدة بنايات وسط المربع من دون تحديدها، ما يحوّل شوارع المدينة طوال النهار إلى ما يشبه «ماراثون الرعب»، حيث يجري الصغار والكبار هاربين من القصف، بينما يلقي آخرون بالأغطية والفرش من الطوابق العليا في سباق مع لحظة الانهيار.
وعلى أبواب المستشفيات وأرصفة الطرق، تبيت المئات من العائلات ليلتها من دون مأوى. هكذا، يبدو المشهد في غزة أشبه بيوم القيامة، حيث من يستطيع النجاة بجسده يخلي المدينة عبر شارع الرشيد إلى المجهول في وسط القطاع وجنوبه، في حين أضحى النزوح ترجمة لأن تدفع كل ما تمتلكه من مال لسائق الشاحنة، لينقلك من بيتك في مدينة غزة إلى الشارع في جنوب القطاع. ووفقاً للتقديرات الإسرائيلية، فإن نحو 300 ألف من سكان مدينة غزة وشمال القطاع غادروا خلال الأسبوعين الماضيين، أكثر من نصفهم خلال الأيام الثلاثة الماضية، فيما يبقى في المدينة نحو 900 ألف من الأهالي، أكثرهم لا يمتلكون تكاليف النزوح ولا خيارات لديهم سوى البقاء، أياً كانت النتيجة.
نحو 300 ألف شخص غادروا نحو الوسط والجنوب، نصفهم في الأيام الثلاثة الأخيرة
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان صورة نكبة عام 1948؛ ونتاجه الملموس والمادي الذي لا يمكن القفز عنه، وهو أن مدينة بكامل بنيتها الحضارية والتاريخية يجري طمس طابعها العمراني وهدمها إلى الأبد، فيما الآثار المترتّبة على عجلة الخراب تلك، هي أن الآلاف من الأسر ستجد نفسها من دون مأوى، ومن دون أمل في المستقبل، ما سيجعل الهجرة إلى خارج القطاع حبل النجاة الوحيد لاستعادة الحياة.
وفي خضمّ عملية التدمير الممنهجة للمدينة، تحدّثت وسائل إعلام عبرية عن أن رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أوعز بتجهيز خطة لتهجير الغزيين عبر البحر والجو، مع تعزيز الجهود للبحث عن وجهة لاستقبالهم، بينما يدور الحديث عن عدد من الدول الأفريقية من مثل إثيوبيا والصومال وجنوب السودان.
وعلى الرغم من أن كل المساعي الإسرائيلية تصطدم حتى اللحظة بالرفض المصري والعربي والمعارضة الدولية، فإن الرهان الإسرائيلي يتجاوز الظرف الآني إلى الأمد البعيد، إذ إن وقف الحرب من دون وضع آلية للاستجابة السريعة التي تفضي إلى استعادة الحياة المدنية، من شأنه أن يصنع واقعاً طارداً للناس من القطاع، وهو ما ترتكز عليه الخطة الإسرائيلية في مسارها على الأمد البعيد.
أمّا عن القبول الشعبي، فإن الموقف الراهن، وما يقرّ فيه جيش الاحتلال من صعوبة إخلاء مدينة غزة على الرغم من القصف المكثّف والمجنون، يثبت مدى تمسّك الفلسطينيين بأرضهم. غير أن بقاء النازح الجائع الأعزل في مواجهة آلة الدمار والخراب، ليس المعادلة المثالية لعرقلة الخطوات الإسرائيلية. ولذلك، هو يحتاج إلى دعم عربي ودولي حقيقي على الصعيديْن السياسي والإنساني لتعزيز الوجود والبقاء في وجه آلة الاقتلاع والتهجير.