
"يخسر الإنسان كثيرا إذا عاش بين الشياطين، و يخسر كل شيء إذا صار شيطانا مثلهم"!
أوجين راستينياك Eugène Rastignac شخصية روائية استخدمها أونوريه بالزاك
(Honoré de Balzac)
أفرغ فيها كل شحناته النقدية اللاذعة للمجتمع الفرنسي البورجوازي خلال القرن التاسع عشر... و اتسمت هذه الشخصية الروائية بالمغامرات المتنكرة في أكثر من هيأة و بأكثر من لون لفك رموز مجتمع مركب من أنساق ثقافية و اجتماعية حاول الكاتب بالزاك أن ينقض غزلها بذكاء الثعلب في صراعه مع الثعبان. و الهدف تخليص الأمة الفرنسية كلها من إرث القرون و ليس بمقياس حساب سياسي ظرفي أو لانتصار لفئة اجتماعية دون غيرها، أو جهة من جهاتها. إنه سعى لإقامة الدليل الدامغ على زيف الواقع السياسي و كشف الوجه الحقيقي للمجتمع البرجوازي ، من خلف ألوان الستائر البراقة. و في العادة ينجح الكتاب الروائيون في اختراق منظومة القيم الاجتماعية الزائفة ،مع خسارة سمعة أسماء الأشخاص التي استعاروها للتخفي من ورائها و إخفاء مقاصدهم الحقيقية في جلد المجتمع حتى لا يكونوا عرضة للتتبع من قبل من بيدهم سلطة المجتمع، موضع النقد!
و لذلك، نجد أن العالم يجل الكتاب الروائيين بعد موتهم لكنه يقشعر من أسماء الشخصيات المستعارة التي استخدموها في أعمالهم النقدية، التي يبالغ ، باسمها، الروائيون في أعمالهم التي قد تجرح المجتمع و تنال من قدسية منظوماته القيمية الاجتماعية و الدينية.، المعمول بها؛ و التي هي محل اهتمام النقاد و موضع جلد النظام الاجتماعي. هذا الأمر معهود و مألوف في عالم الأدب . ما ليس مألوفا هو أن يلعب شخص طبيعي دور الشخصية الروائية... بأسلوبها المتناقض و أدوارها المتلونة. فهو يمشي بتواضع بين الناس ، يحب الحديث المباشر معهم، و عن معاناتهم، و يحب بذات الرغبة مجالسة و مؤاكلة جلاديهم... فيتحف الجميع ، إن شاء بخفة الظل، و يغرق الجميع، إن شاء، في عتمة الغموض، يحمل في عيون المغبونين سيف الجرأة بشماله، و يرفع، بيمناه راية الجبن مع المتسلطين، تبعا لحجم الربح و الخسارة! فهو الذي يقوم اليوم بكل شيء و يتنصل من كل شيء، في اليوم التالي! يرى المناسبات الدولية و الجولات الداخلية خزانة أزياء يلبس منها ما يناسب الجمهور ، قدامه! و يعفي نفسه من كل حرج؛ فيطور طريقة جديدة كل لحظة للحكي، ثم يطورها في المكان الموالي. إن آخر ما يفكر فيه راستنياك كان و ما زال أهمية الأمانة مع جمهوره بالأمس. لقد مثلهم ، و لم يعد كذلك في الساعة الموالية ، على وفق سردياته، تارة باسم ضمير المتكلم، و تارة باسم ضمير الغائب!
و إذ يتنافس المتنافسون، الصادقون و الكاذبون، من معسكره السياسي، في الإعجاب بهذه المرونة الخارقة في تبدل الألوان بتلك الوقاحة المتوهجة بوصفها وميضا من حرقة المظالم ، فإن راستنياك يتسلى بإرهاقه لأذهان المفتونين ببراعته في تركيب تناقضاته التي يتوجب عليهم أن يبرعوا، بدورهم، في تبرير محمولاتها من الكذب، لتوظيف عائداتها الدعائية بكل الوسائل ، و لو بالتضحية بأكثر المشتركات قيمة و فائدة على مجموع مكونات الشعب البائس، و أقلها إثارة لاهتمام الطبقة الموسرة، و الحكام بوجه خاص! ليبق راستنياك مشروبا مسكرا لأنصاره و خصومه معا بكحولية مخففة، تخدع الأولين في اكتشاف حقيقة أمره، و تمنع الآخرين من الوعي بخطورته...
راستنياك يلعب، منذ سنين، مع الشياطين، و يخشى عليه أن يصير شيطانا... في لعبته الأخيرة!!