إعلانات

"قصص بوليسية"- 2 - الشرطي والطريق

سبت, 02/08/2025 - 00:04

الدهماء ريم

 

Eddehma Rim

 

 

مع بداية كل عام جديد، أضع مبلغا من ثلاثة آلاف أوقية قديمة في صندوق السيارة إلى جانبي، المبلغ ليس صدقة، هو ثمن راحة البال من مطاردات أعوان المجموعة الحضرية وظهيرهم من الشرطة.

تجذبني طبيعتي إلى ألفة مع الأشياء بالتكرار، والأمر ينسحب معي على مسارات الحركة، أُخلص لشوارع بعينها، ومنها شارع يشق جزء من المدينة من غربها لشرقها، اسلكه بالدَّوام نزولاً تجاه بعض مصالحي، وفي وسطه أُسلِّم نفسي طواعيَّةً لكمينِ مقيم هناك ما أقام عسيب، وهو كمين أم البلديَّات (المجموعة الحضرية)،..

يُشير إليَّ ذات الشرطي الأسمر البشوش بحركةِ ذراعٍ لم تعرف البِطالة منذ وُضع على سِكَّة الجباية قبل عِقْدٍ أو ربما أكثر، أتوقَّفُ وأعتَدلُ بمَركبتي تحت مُستقرِّ أوامِرهِ، اسْتَقبله حَذْو نافذتي على بُعد خُطوتين مُتقابِلين، وقبل التحية قد يسعل أو يعطس، الأمر متوقَّع، فقد أتعبت رئتاه عوادم العَدم، والدَّليل احتياله على أنفاسه بكمامة مُتَّسخة..

نعم، هو نفس الشُّرطي دائمًا، ونفس مِزاجه الرَّخي.. إنَّه هُوَ!، لا يتغير، سحنة مصبوغة بإعياء السنين، منهوكة بكلَلِها، ومازال جسده الناحل يسبح في عين البدلة المترهلة، التُّرابية الباهتة،.. الأكيد أنها صُمِّمت على مقاسِ قوامِ رجلٍ ربما كَانَهُ، أو كان يفترض أن يكونَهُ صحَّة ولياقة، والأكيد ليس الذي هو عليه الآن،.. صرنا "معرفة" بالتَّعود، فقد قيَّده الحظ المهني على ظهر ذلك الشارع منذ دهر حتى أصبح من معالمه الشاحبة.

يهمسُ لي بخفَّة روح: «الضريبة!»، وقبل أنْ أرُدَّ، يَصيح بعامل البلدية فَيَلْتحِق بنا مُهرولاً، كاسِف النَّفسِ، يُعبئ الوصل بشهيَّة صَيَّاد وخطِّ طالب طِبٍّ مُتعجِّل،.. يفك لاصق الدمغة وباجتهادِ عَرضي يُلصقها كيْفما اتفق، ولكل مُجتهد "نَصيب"،.. بدوري أنقده ثمن راحة البال، فذلك أعلى شعور لي تجاه دفع الضريبة اليوم،.. لماذا؟.. لأنِّي معفية أصلا من التدقيق في وَجَاهة مسوّغات تحصيلها، ومُستثناة مُسبقًا من امتياز تقصِّي أوجه صرفها البلدي على حق أو على باطل، وما إذا كانت ستعود عليَّ بالنَّفع، أمْ ستذهب حظوة لرجل بلا عمل، سَيتسمَّى مَجَازًا بعد تخمة صفقات "رجل أعمال" ، أم "لتيفاي" مُتخلِّف، يَحمل تصنيفا عشوائيا لكينونته.

قبل أن يودِّعني شُرطي المَغَارِم الحَضريَّة، يهمس لي ثانية، لكن هذه المرة بلغة الإشارة، لغة يترجمها احتكاك إبهامه بالسبابة، بما يُفيد "وأنا؟"!..

في السنوات الأولى لمعرفتي به، كنت استهجن بتشنُّج تلميحاته، بل أقذفه بدفق من مواعظ سَمْجة حول الوطنية المُعتلَّة بنفسها، ثم صرتُ لاحقاً استعتبه بتجهُّم مُصطنع، ومع الزمن حَمَلني مرحه العفوي أنْ انخرط معه في اللعبة، فغدوتُ أتملَّص من إلحاحه بنفس "لحريْفات"،.. أدركتُ بعد حين أنْ لا فائدة من تغليف بُخْلي بغِشاء مُتهالك من وطنية بالية، فأسقطتُ الجدية من حسابات حديثنا على قارعة الضَّريبة، أحسستُ أنَّ وَعْظي له يُشبه فعل سَفرٍ عبثيٍّ على درَّاجة ثابتة، فمهما حُرِّكَت دوَّاساتها لن تخطو إلى الإمام.

تَذهبُ أيَّامٌ مُعتادة وتَأتي أخرى مَألوفة، وتحملني المشاوير تاراتٍ للمرور بنفس الطريق، فأتعامَى، وأتشاغل بلا شيء لأتجاوز كمين المُكَّاسِ بسلام، لكنهم كالقدر المُنْتَظَر، لا يُنجي منهم حذر،.. يهرع إليَّ الشرطي عينه، تسبقه ضحكته الطفولية، ضحكة تصلح لحنًا لبرنامج مُنشرح من نوع "سعادتُكِ بِيَدنا"!، أو بعبارة أدق "حَضرتكِ في قبضتنا"،.. ثم يقول: «الضريبة!».. أضحك تمثيلاً وأقول :« أيضا بحق السماء؟!»..، ثم انقر برأس سبابتي على دمغتهم الملصقة منذ أشهر على الزجاج الأمامي،.. ورغم دليل إخلاء الذَّمة البلدية، يُكرِّر وبإلحاحٍ صوتيٍّ أبْراهُ ناعمًا حتى صارَ ودودًا: «الضريبة!»،.. وحينها أعيد عليه السؤال الثابت:« أيُّهاااا، العمومية أم الخصوصية؟، جيبك أم محفظة منت عبد المالك؟!»، فيضحك،..

حين أمرُّ ولا أجده، أشعر بوحشة في المكان، وكأنَّ حياةً مَا تنْقصُ الشارع،.. أيعقلُ أن يتحول الكمين لفخٍّ من فخاخ الحنين،

صارت اللُّعبة بيننا صَوْن وُدٍّ سرياليٍّ لطيف على قارعة الضُّعف الإنساني، حيث يكون الهامشيّ سَنَد نفسه الأوحد، حتى ولو امتلك السلطة نظريا.

تحياتي لكم، وتحية أحسن منها للشرطة.