
في خيمة لا تتجاوز رقعة ظلّها، ولد الطفل، لا يحمل اسماً عريضاً، ولا نسباً مزهواً… ولد رضيع لا يعرف عن العالم سوى ملمس الأرض الباردة تحت قدميه، وصوت أمه الذي خفت مع الأيام.
وحده يجلس على الأرض الإسمنتية، أمام خيمته التي تمزقت أطرافها من تعب الرياح، يرتب فتات الخبز بيد لا تعرف كيف تمسك الملعقة. لم يتعلم بعد كيف ينطق جملةً كاملة، لكنه فهم اللغة الأعمق: لغة الجوع.
اقتربت منه قطة رمادية، نحيلة، هاربة من مكان ما، ربما من بيت سقط، أو من حضن فقد صغاره. كانت تتقدم بحذر شديد وعيناها تبحثان عن شيء لا اسم له… ربما قليل من الدفء والطمأنينة… وربما مجرد لقمة.
أمسك الرضيع بقطعة خبز صغيرة، ورفعها إليها….
تقدّمت القطة أكثر. رفعت عينيها إليه، ثم إلى الخبز، ثم إلى يده الصغيرة المرتجفة. كان الطفل يحدّق فيها بدهشة…
أكلت من يده. لقمة… ثم لقمة. والطفل يراقبها مبتسماً.
ما الذي يجعل طفلًا لم يخط أولى خطواته بعد، يعطي طعامه لكائن لا يتكلم؟ من أخبره أن الحياة تقف على تفاصيل صغيرة كهذه؟ كيف علم أن الرحمة لا تحتاج نضجاً، وأن الأمان يمكن أن يهدى في لقمة؟
غزة لا تدرّس الحب في المدارس. مدارسها هدّمت، ومعلماتها يكتبن اليوم أسماء الشهداء بدل أسماء الطلاب. غزة تترك دروسها للغريزة، للحدس، للعين المحبة…
ذلك الطفل لم يكن يطعم القطة فقط. كان يطعم روحه أيضاً. وكأنه يخبرنا بأن الفقد لا يمنعنا من أن نكون بشراً، أن الحرب لا تنزع من أرواحنا النعومة، أن الحصار لا يجفف الحنان.
في مشهده الصغير هذا، كتب سيرة مدينة بأكملها. مدينة تقاسمت الألم عقوداً، ولكنها ظلت تتنفس الإنسانية والمحبة. ظلّت ترسل أطفالها إلى الضوء، حتى وإن سكنها العتم.
أمه لم تكن بعيدة. كانت تجلس على حافة الخيمة، تراقب بصمت… ربما لم تملك له حليباً هذا الصباح، لكنها الآن رأته يشرب من نبع العطاء.
تمنت لو أن بيدها هاتفاً جيداً لتصور المشهد، لتخبر العالم أن ابنها لم يتعلم هذه اللفتة في كتب التربية، لم يسمعها في خطبة، لم يرها في مسلسل. تعلّمها من غزة.
في غزة، الطفل لا ينتظر ليكبر كي يصير إنساناً. يتعلم الحزن مبكراً، الفقد، التأقلم، ثم الحبّ رغم كل شيء. والحب في هذه المدينة يفيض من كسرة خبز، من احتضان قطة، من ربتة يد على كتف غريب.
لم تكن تلك اللقطة لحظة عابرة. كانت مرآة عكست ما تبقّى من الإنسانية في زمن لم يبق فيه إلا الرماد. كانت احتجاجاً صامتاً، أعنف من ألف صرخة. كانت سؤالاً موجّهاً للعالم: ماذا تفعلون بقلوبكم حين تغلَق كل الأبواب؟
هذه ليست قصة طفل يُطعم قطة. هذه قصة وطن… يرفض أن يجرّد من روحه. وطن جريح، محاصر، يقصف كل يوم، لكنه حين يرى من هو أضعف منه فيطعمه.
في عصر صار فيه الإنسان يهاجم أخاه باسم الدين، والحدود، والهوية، يأتي رضيع من خيمة، ليمدّ يده لكائن جائع ويقول: نحن شركاء في الوجع… وها أنا أقاسمك اللقمة.
ذلك الصغير يملك ما فقده الكبار: القدرة على أن يرى الآخر… حتى وإن كان «الآخر» قطة مهملة، تنام بين الأنقاض.
ما دامت غزة تنجب أمثال هذا الرضيع… لن تموت.
المصدر: القد العربي