
د. محمدُّ أحظانا
هل ينجح اترامب في تحقيق مشروع الأنكفاء على الذات لدولته إسوة ببريطانيا وانكماشها "العظيم"؟
انسحبت الولايات المتحدة الأميركية اليوم من منظمة اليونسكو العالمية للمرة الثانية بعد انسحابها الأول في عهد اترامب الأول، و هو انسحاب له مابعده من التخلي عن المعرفة والقيم.. بعد انسحابها أيضا، من منظمة الصحة العالمية، ومنظمات دولية وإقليمية عديدة خلال الأربعة أشهر الماضية، كما أطلقت بالرسوم الجمركية رصاصة الرحمة القاتلة على منظمة التجارة العالمية... ولا يستبعد أن تعلق لاحقا عضويتها في الأمم المتحدة أوتحجب مساهمتها المالية فيها على الأقل، باعتبارها منظمة معادية للسامية مثل مشتقاتها.
وعليه من حق العالم أن يتساءل الآن:
- إلى أين تتجه هذه الدولة العظمى التي تهدم بيديها كل إنجازاتها التشاركية المؤسسية العالمية خلال أكثر من نصف قرن من الزمن، بتسارع مريب؟!
أرى:
أولا: أن وجهة هذه الدولة العظمى هي وجهة امبراطورية انعزالية واحدية، يطبعها الاستعجال، وعدم الإحكام، الناجم عن بعض أعراض الشيخوخة، مما ترتب عليه تعدد الأخطاء الكبرى والارتدادت المهولة، وكلفة الخسائر المادية والمعنوية لهذه الدولة.
إنها تسعى -على ما يبدو- لهدم كل ما بنته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا المحطمة؛ إلى إنشاء حلف شمال الأطلسي، الذي تحورت العلاقة معه أخيرا من شراكة إيجابية إلى تجارة محسوبة بالمليم. وهلم جرى.
ثانيا: يمكن اعتبار كل الخطوات الترامبية المستعجلة مسابقة للزمن قبل نهاية المأمورية الحالية؛ بل قبل الانتخابات النصفية المقبلة بعد سنة وأشهر في الولايات المتحدة الأميركية، سعيا إلى تحقيق الحلم الامبراطوري في ظرف قياسي، بهدم كل المفاهيم التشاركية السائدة و الهياكل التنظيمية في العالم، بما فيها القوانين الدولية، من مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، وحقوق الشعوب، والاحترام المتبادل بين الدول.
وفي هذا السياق المحموم ليس صدفة ولا مستغربا من اترامب أن يشطّر السفير الإس..رائيلي المدلل تحت القبة التي ولدت إسرائي..ل من رحمها، ميثاق الأمم المتحدة ألف شطر بآلة تمزيق حادة، أمريكية الصنع.
ثالثا: حسب المؤشرات الفعلية لهذه الدولة فإن الوجهة الامبراطورية تنبني عندها على مشروع عملي قائم في ذهن صاحبه على الابتداء بالممكن ثم يليه غير الممكن نسبيا، ليأتي بعده تحقيق المستحيل تصوريا وعمليا، في الوقت الراهن.
يتضمن هذا المشروع هدم كل القيم التداولية الأخلاقية الإنسانية والعملية السائدة، وتفكيك كل الروابط السارية، لتحقيق حالة انعدام وزن، واخلال عالمي، وارتجاج عميق في الأسس، تمكن من إنجاز الحلم الامبراطوري بالسيادة المطلقة على العالم عبر كل الطرق الاقتصادية والسياسية والعسكرية التوسعية، مع قطع الصلة بالعالم وإفادته في أي شيء..
رابعا: يتماشى هذا المشروع الكبير حاليا مع المشروع التمهيدي الصه..يوني الذي تبناه اترامب باعتباره رأس جسر حيوي، من إنشاء النتن.. ياهو؛ المجسد في خرق كل الأعراف والقيم الدولية والإنسانية بغ.زة والضفة، والجوار.، فإنجازاته الكبرى التي لاتخضع لمعيار أخلاقي بشري، يمكن العبور بها إلى كل المحرمات الدينية والإنسانية الكونية المحتملة؛ لكن بشكل أقوى وأوسع. فالنتن.. ياهو قوة استطلاع مهمة لترامب كي يفعل ما يبدو له مستقبلا من لعب بالعالم وقيم التعايش لديه. فوحشية النتن.. ياهو تدريب للعالم على تقبل مد يد وغطرسة أكثر. ولذا فهو ثمين للغاية في عين اترامب، وعليه أن يوغل أكثر حتى يصبح رأس الجسر ماهدا للعبور على جثة القانون الدولي ودهسها.
بناء عليه أعتقد أن النظر لدى اترامب منصرف إلى المشروع الأكبر، أما المشروع الأصغر (مشروع النتن ياهو في الشرق الأوسط محتلا) فهو محطة تمهيدية نزلت عليه من السماء فاحتفى بها واحتضنها بكل إخلاص وتحمس، وصادفت هوى متأصلا في نفسه.
خامسا: لا يمكن بسط الوصاية أو الاستعمار المشذب على بلدان عديدة من العالم إلا إذا أحدِث زلزال في القيم البشرية التداولية، فكلما اهتز العالم أكثر واضطرب أشد أمكن تحقيق الزحف الكامل عليه بالنفوذ المجاني أو القسري المعنوي، أو القهري المادي والعسكري..
والتعود على رؤية الحطام والدماء النازفة، والأشلاء، والجياع.. فصل مهم من فصول التمهيد للمشروع الأكبر، وتربية عليه.
هل يمكن تحقيق هذا المشروع؟
مما يساعد على تقدم هذا المشروع الطموح جدا:
أولا: تحقيق صدمة الرعب في العالم من أمريكا، للاستسلام لها في كل ماتريده.
ثانيا: تماسك داخلي في القيادة و المحتمع الأمريكيين خلف مشروع اترامب الامبراطوري المطلوب.
ثالثا: اتفاق من تحت الطاولة مع الروس على قيامهم بما يشاؤون في أوكرانيا وجوارها، وقيام أميركا بما تشاء في بقية العالم، باستثناآت محدودة.
رابعا: المحافظة على خضوع الكونغرس ووفائه للمشروع الكبير، وتعزيز أغلبية دائمة فيه للسنتين الباقيتين من هذه المأمورية، ثم بعد ذلك تحقيق مأمورية ثالثة لترامب إذا قبلها الرأي العام الأميركي والدستور، أو استحدثت ظروف عرفية لذلك.
فماهي الموانع دون تحقق هذه الشروط الأربعة؟
أولا: أرى أن الرأس الثنائي الوجوه الذي وصل به اترامب إلى الرئاسة قد انشطر. هذا الرأس الذي يشبه رأس يانوس ذي الوحهين: له وجه مالي تقني؛ ووجه سياسي يميني محافظ.
ورغم غرابة هذا التآلف الذي لم يطل لجمعه بين متناقضين، فإن الرأس الواصل لمحطة النجاح انشطر الآن بعصيان ماسك.
إن دافعية البريق المالي التقني قد انفصلت عن رأس قطار النجاح السياسي اليميني. ولا يهم هنا إن كان ماسك سينال أصواتا من نفس الكتلة؛ بل الأهم أن اترامب سيفقدها.
إضافة لهذا: تدهور السمعة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية لحكومة اترامب لترابطها العضوي بأسباب إبادة جماعية في غ.ز.ة منشورة على رؤوس الأشهاد.
وعليه، لا أتوقع أن تكون الغلبة للرجل في الكونغرس القادم كما هي الآن؛ إن لم تحدث حرب جذابة أو ازدهار ملفت.
هذه الحصيلة ستهدد اترامب بأن يلعب دور البطة العرجاء في النصف الثاني من مأموريته.
ثانيا: لا أتصور إلا أن بوتن يلعب على غرور صديقه اللدود اترامب حتى يستكمل حربه في أوكرانيا، ولن يسمح له بالتمدد الذي يبغيه أبدا، وسيشاغبه كما شاغبه في تسليح أوكرانيا حاليا.
ثالثا: أستاذية النتن.. ياهو، والمراهنة عليها خاسرة انتخابيا، ودوليا، واستراتيجيا، فهو ليس بتلك البراعة المتوقعة من حاميه.
لقد جازف اترامب بسمعة بلده وسمعته الشخصية عندما ربط نجاح مشروعه الضخم بنجاح مشروع النتن.. ياهو في حربه التي خسر فيها كل شيء وأخسر أمته كل المكاسب التي استحصلتها بالطش والرش من سمعة المحرقة اليهودية على أيدي النازيين.
هذه "الأستاذية المقلوبة" أخسرت اترامب كذلك لأنها جذبته عاطفيا ضد نصلحة بلده؛ بل جعلته يغبط النتن.. ياهو على ماحققه لبلاده من سوء سمعة، و عزلة، ونبذ عالمي مبهر.
و بذا نراه يسعى لتحقيق انكماش عظيم متوج بالأكاليل، إسوة بالنتن.. ياهو، ثم إسوة بالعرابة بريطانيا العظمى، ذات التجربة الرائدة في مهارات التصاغر، و الانعزال، والانكفاء على الذات، والانكماش العطيم.
رابعا: أعتقد أن ذاكرة العالم لاتزال تستحضر خسارة أميركا في ثلاثة حروب ونصف حربين، على التوالي: حرب فيتنام، والعراق، وأفغانستان، ثم باب المندب في اليمن. ولم لا، حرب غز.ة فقد خاضتها أيضا، وإن بفعل متولد؟
وبالتالي فتحقيق حالة الرعب بالقوة القاهرة لم يعد له نفس الزخم السابق.
أما الاقتصاد فإن امتصاص صدماته عالميا أصبحت ممكنة جدا بعد فشل معركة المزايدة على الصين والبرازيل.
بناء عليه؛ أرى أن نجاح اترامب في تحقيق الانكماش لبلده متاح له إلى حين، ولذا لابد له من جهد خارق لتحقيقه في وقت وجيز، وإلا فاتته الفزصة.
وستحدد المدة الزمنية لحكمه الواحدي لأميركا، وعدم تكرر أخطائه القاتلة، درجة النجاح في هذا الانكفاء المغري على الذات، والانكماش الأخاذ.
وربما تتأتى حالة معاكسة تتقذ لآميركا عظمتها المهددة.
إن الطمع في أخذ كل شيء يؤدي عادة إلى خسارة كل شيء. وما تخبط النتن.. ياهو منه ببعيد.