
تمثل نواكشوط اليوم لوحة سوسيولوجية فريدة، حيث تتجاور المجمعات الإسمنتية الحديثة مع أحياء غير مهيكلة نشأت على هامش التخطيط الرسمي، في مشهد يعكس تعايش أنماط عمرانية متباينة تجسد أزمة هوية تعيشها النخبة المدينية. فبينما ترفع هذه النخبة شعارات الحداثة والانفتاح، تظل ممارساتها اليومية وفية لأنماط التفكير والتنظيم الاجتماعي الذي تشكل في أحضان البادية الموريتانية.
استمرارية الثقافة البدوية في الوسط الحضري
تكشف الدراسات الأنثروبولوجية أن المجتمعات قلّما تنفصل تماماً عن جذورها الثقافية، حتى عند انتقالها إلى بيئات حضرية حديثة. وفي موريتانيا، تتجلى هذه الحقيقة من خلال إدراك الزمن كحلقة تعود إلى أصلها، بدلاً من خط تقدمي يتجه نحو المستقبل. كما تُعامل المؤسسات والمرافق العامة كمحطات عابرة لا كأماكن تستحق الاستثمار الجاد، وتستمر العصبيات والانتماءات الضيقة في التحكم بتقييم الكفاءات وتوزيع الفرص، رغم مظاهر الحداثة.
إشكالية التحضر الناقص
ظلت المدن الموريتانية، وعلى رأسها العاصمة نواكشوط، في حالة وسط بين حياة البادية والمدنية الكاملة. ويمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال الانتقال المفاجئ الذي لم يترك للنخب والمجتمع فرصة التكيف التدريجي مع متطلبات الحياة الحضرية، وغياب الرؤية الحضرية، إذ نشأت المدن بوصفها مراكز إدارية دون مشروع ثقافي أو اجتماعي متكامل. كما أسهم قصور المنظومة التعليمية في ترسيخ قيم المواطنة والانتماء المدني.
ووفق بيانات رسمية لعام 2023، تجاوزت نسبة التحضر في موريتانيا 60%، مع تركز ثقل سكاني متسارع في العاصمة نواكشوط بفعل الهجرة الداخلية، دون أن يُواكب ذلك تطورٌ مماثل في الخدمات أو التخطيط الحضري.
وفي هذا السياق، وضع رئيس الجمهورية، في 16 ديسمبر 2024، حجر الأساس لأحد أقطاب مشروع الصرف الصحي الشامل باستخدام تقنيات عصرية. غير أن هذه الخطوة، على رمزيتها، لا تزال تفتقر إلى الأساس البنيوي اللازم لضمان نجاحها. فغياب شبكة طرق معبّدة يشكّل عائقًا جوهريًا، إذ تُعد الطرق المهيأة شرطًا مسبقًا لأي بنية صرف فعّالة، لا مجرد مكمل لها. فهي تُمهد الأرض لتمرير الشبكات، وتشكّل العمود الفقري لمرافق حضرية متماسكة ومستدامة. وبدون هذا التمهيد، يبقى المشروع عرضة للتعطيل والتلف، في مدينة تُدار بنصف بنية ونصف وعي حضري.
نحو تجاوز مظاهر التحضر الناقص
إن تجاوز هذا الوضع لا يتطلب فقط قرارات فنية أو مشاريع عمرانية، بل تحولًا أعمق في الرؤية والسلوك والسياق الثقافي. وفي هذا الإطار، يمكن تصور مداخل ثلاثية للتحول الحضري تشمل الثقافة، السياسات العامة، والتعليم والإعلام.
آفاق التحول الحضري
أولاً: على المستوى الثقافي
• تطوير إنتاج أدبي وفني يعبر بصدق عن التجربة الحضرية الموريتانية.
• إعادة صياغة الرموز الثقافية لتعكس التنوع الحضري بدلاً من الانتماءات الضيقة.
• توثيق وتحفيز التجارب المحلية الناجحة، مثل مبادرات إعادة تأهيل أحياء الترحيل النموذجية.
ثانياً: في مجال السياسات الحضرية
• تفعيل مجالس الأحياء كخطوة أولى نحو التخطيط التشاركي، مع تحديد آليات انتخابها واختصاصاتها القانونية.
• إنشاء بنية تحتية ثقافية متكاملة (متاحف، مكتبات، مراكز ثقافية) تُرسّخ روح المدينة كمجال للتفاعل والمواطنة.
• الاستفادة من النماذج الإقليمية، كحالة الرباط في توظيف التراث المعماري لتعزيز الهوية المدينية، وتجربة داكار في مواجهة التوسع العشوائي عبر مشاريع إسكان متكاملة.
ثالثاً: في مجال التعليم والإعلام
• إدراج مادة “التربية المدنية الحضرية” في المناهج التعليمية، مع اعتماد زيارات ميدانية للمرافق العامة وتدريبات على المواطنة الفاعلة.
• تشجيع إنتاج محتوى إعلامي يعكس ثراء الحياة المدينية وتحدياتها، ويُعيد الاعتبار للفضاء العام كقيمة.
خاتمة: نحو هوية مدينية أصيلة
التحدي الحقيقي لا يكمن في التخلي عن الموروث الثقافي، بل في القدرة على إدماجه داخل مشروع حضري حديث يواكب متطلبات العصر، ويصبّ في خدمة رؤية موريتانيا 2030 التي تضع التحضر والتماسك الاجتماعي ضمن أولوياتها التنموية. فالمدينة ليست مجرد حجر وإسمنت، بل فضاء للعيش المشترك، وإعادة تعريف الانتماء، وبناء المواطنة.
ويبقى السؤال مفتوحًا:
هل يمكن أن تُشكل “المدنية الجديدة” أساسًا لهوية وطنية جامعة؟
قد لا يكون الجواب في السياسات وحدها، بل في كيفية تَملُّك المواطن للمجال الحضري بوصفه أفقًا للكرامة والتعايش والإبداع.
إسماعيل أحمدوا