إعلانات

كبرياء رجل يدوّن...

ثلاثاء, 06/05/2025 - 19:42

كبرياء رجل

 

 

 

صباح الأرواح التي لم تعد ترى في الضوء سوى أثرًا من تجلٍّ، ولا في النسيم سوى لطافةً من نفحة رحمانية...

صباح من تركوا زحام الحس، وصعدوا في مدارج الذكر، يلتقطون المعنى من صمت الفجر، ويسقونه قلوبهم كزمزم.

أيّها السائرون إلى الله على جمر الهوى، المثقلون بالشوق، المطعونون بنور المحبة...

ما الصباح إلا مرآة قلوبكم، فإن كانت ساكنةً بالله، أشرقت الأرض، وإن كانت مشغولة عنه، توارت كل شموسها.

دعوا الزمن لأهله، وسيروا إلى الحق بنور "إياك نعبد"،

واشربوا من كؤوس التوحيد حتى تثمل فيكم الأنا، وتصحو بكم الروح.

اللهم في هذا الصباح، طهّر قلوبنا من كل تعلق سوى بك،

وارزقنا سكينة العارفين، ونور الموقنين، وصحبة الطاهرين،

اللهم اجعلني وكل من قال "آمين" من المقبولين عندك،

واجعل لنا في كل صباح فتحًا، وفي كل نفسٍ قربًا، وفي كل خطوةٍ نورًا،

برحمتك يا أرحم الراحمين.

*** 

 

الرجال لا يبكون...

لأن البكاء في عرفهم طقسٌ يُقام في الغيب، لا مشهدٌ يُعرض في العلن.

الرجال... حين تنكسر قلوبهم، ينزفون رجولةً لا دمعًا،

ويشدّون على جراحهم كما يُشدّ السيف في الغمد، صامتًا، نبيلًا، قاتلًا.

ما بالكم بمن جعلوا من وجوههم مآقي مستباحة،

يبكون كأنهم ما خُلِقوا من صخرٍ، بل من طينٍ نديّ،

ينتحبون كأن الفقد نهاية الأكوان،

وينشرون وجعهم كما تُنشر الفضائح،

بحثًا عن شفقةٍ لا عن عزاء.

الرجال لا يبكون على أنثى صدّت،

بل يطوون الصفحة دون أن تُسمع لها صرخة.

لأن الرجولة عِزّةٌ تأبى الركوع تحت أقدام الذكرى،

وأنفةٌ تمشي على الجمر ولا تئنّ.

ليس الجفاف سُمُوًّا،

لكن الرجولة شمسٌ تأبى أن تذرف ماءها في وضح الظهيرة،

تختزن حرّها في الأعماق،

وتشرق كلما أراد الوجع أن يُطفئها.

فابكِ إن شئت...

لكن لا تسمِّ نفسك رجلًا.

 

***

 

الزمان والمكان: رهانات الفكر وقيود الوجود

ألا ليتنا ندرك أن الزمان والمكان ليسا إلا سجنين مترامي الأطراف، لا من سبيل للخلاص منهما إلا بتسلق جدرانهما اللامتناهية عبر الأدب. ففي الأدب العربي، لا يسير الزمان كسيلٍ عابر، ولا المكان كظلٍ باهت؛ بل يتنقلان بين يدي الكاتب كمرآتين مكسورتين، يكشفان عن أبعادٍ غير مرئية من الوجود البشري. ليس الزمن إلا تكثيفًا مستمرًّا للمواقف والأفكار، وليس المكان سوى بوصلةٍ تهدينا نحو الداخل، نحو ذلك القابع في أعماق الروح.

فما الزمان، إذا لم يكن سيلًا متدفقًا يَسْتَرِقُ لحظاتنا كما يسترِقُ الليل منَّا النوم؟ وأيّ مكان يمكن أن يكون؟ أهو مجرد مسافةٍ جغرافية بين نقطةٍ وأخرى؟ أم هو ساحةٌ معركةٍ تُختصر فيها حيواتُنا بأقدارٍ تُبَاشِرُنا مع كل خطوة؟ إن الزمان والمكان في الأدب العربي ليسا مجرد ظرفين يتوسّطان الأحداث؛ هما العنصران اللذان يشدان الروح ويغرقانها في أفقٍ لا يُرى إلا بالقلب.

إذا نظرنا إلى آثار الماضي، نجد أن الزمان لا يُختزل في سنواتٍ تُمَسّحُها الذاكرة. بل هو سيرةٌ مستمرةٌ، لا تكف عن بثّ أنفاس الأبطال في ثنايا السطور. ولطالما كانت قصائدنا العربية، من "لامية العرب" إلى "معلقاتها" كأصداءٍ للزمن الذي لا يموت، يتنقل من جيلٍ إلى جيلٍ عبر الأحرف التي تَذْهَبُ ولا ترحل. يكتب المتنبي في الذاكرة الزمنية للأمة: "ما كل ما يتمناه المرء يدركه، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن". وكل كلمة في هذه الأبيات ليست مجرد ترتيبٍ لغويٍّ، بل هي الزمن المتحرك في مفرداتٍ، والمكان الذي يتسع لآلامٍ وآمالٍ لا تُرى إلا عند الالتقاء مع الذات العميقة.

أما المكان في الأدب العربي، فهو ليس مجرد موقعٍ مكانيٍّ. إنه عالمٌ، مرآةٌ لذاتنا المضطربة، ومرتعٌ لعذاباتنا وأحلامنا. نراه في صحراء "قيس" معبّرا عن الفراغ الذي يخلو إلا من الذكريات والأشواق. ونسمعه في أصداء الجبال، التي تُصغِي لآهات الشاعر في "الأطلال" كما تصغي الأرواح إلى شريط حياتها الأخير. إذن، المكان هو الموجة التي تندفع على ساحل الزمن، وكل لحظة فيه، تشكل ذروةً تتعالى فيها أصوات الضمير الإنساني.

في هذا السياق، يتداخل الزمان والمكان في لوحةٍ فنيةٍ بديعة، تستمر من خلالها الحياة ذاتها. فكأنما الزمان ليس هو الذي يمر، بل نحن الذين نمر في الزمان، ونحن الذين نقيم في المكان، دون أن نملك من أمرنا إلا تلك اللحظات التي نحتفظ بها في كتاباتنا، والتي تصبح مع مرور الوقت، حجر الزاوية في الحضارة الإنسانية.

والأدب، إذ يلتقط هذه اللحظات من الوجود، يتقن فنّ التعبير عن هذه الأبعاد غير المحدودة في مشهدٍ يتسع ولا يضيق. تظل اللغة العربية هي الأدوات الدقيقة التي تعزف على أوتار الزمان والمكان، فتُحَلِّقُ بالخيال بعيدًا عن الأرض، بينما تعيدنا إلى الجذور، حيث لا شيء يتحرك إلا بما تحركه الكلمات. وإذا كانت القلوب هي الزمان والمكان، فإنا نجدها لا تملك سوى التفاني في البحث عن مغزاها الحقيقي، في أن تكون جزءًا من الخلود الذي تكتبه الأجيال.

 

***

 

يا صاحِب القلمِ الذي لا يُمسك حبرًا، بل يمسك برقًا من وعي،

يا من تكتب لا لتُطرب، بل لتفضح، لا لتُجمّل، بل لتُجلو،

أأنت كاتبٌ أم صاعقة فكرية؟

أأنت شاعرٌ أم كاهنُ بصيرةٍ في زمنٍ كفَرَ بالنبوة والوضوح؟

خطبتك ليست كلامًا، بل مرآة سحرية،

من نظر فيها رأى وجه أمته كما هو: لا كما يُحب أن يراه.

نصّك ليس نصًا، بل رعود على هيئة جُمل،

وليس الدجال فيه شخصية، بل هو مرايا من دمٍ وكذبٍ مكسور،

يُحدثنا بلسان الزمن، لا بلسان الجن.

كتبت فأقمتَ للحرف صلاة،

سجّلت للغفلة شهادة وفاة،

وخلعتَ عن التهكم رداء السخرية، فألبسته جبة النبوءة،

وجعلتَ من الهجاء ديوانًا للأمم،

لا هجاء أفراد، بل تقريع حضاراتٍ تلبس جلد الضأن وقلوبها قُطعان ذئاب.

نصّك لو قُرئ في زمن الخطابة الأولى،

لوقفت له العرب كما وقفت لقصائد المُعلقات،

ولو سمعه ابن المقفع، لألقى برسائله وقال:

"ها هنا البيان قد بُعث من جديد".

أنت كاهن الحرف وعرّاف المعنى،

تنتزع من الغيب دلالاته،

وتصفع به الحاضر حتى يرتجف التاريخ.

ولكأنك نبيّ ضلّ قومه،

فألقى إليهم نبوءته الأخيرة في سوقٍ مكتظٍ بالتافهين،

فلم يصغِ إلا العارف،

ولم يُدرك إلا من يقرأ بالبصيرة لا بالبصر.

فطوبى لك، أيها العملاق،

لقد بلغ حرفك من الصدق ما جعل الكذب يختبئ في ظلّه،

وبلغ من الجمال ما جعل البلاغة تتوضأ قبل أن تمرّ بكلماتك.

سِرْ، فأنت في ركاب العظماء،

وسِرْ، فإن البيان يعتذر إليك إن خانك،

وأما نحن، فلا نملك إلا أن نرفع قبّعة الحرف،

ونقول:

سلامٌ عليك أيها الكاتب الجليل، المرتضى محمد أشفاق .

 

****

 

صباحك لا يُؤتمن… إذ هو نُسخة محسّنة من ليلٍ يتوارى.

وفي فسيفساء الضوء الأولى، تتراءى الدنيا… لا كدار، بل كخدعة متقنة الصنع، كمشهدٍ أعدّه النسيان بعناية فائقة.

نحن؟

هامش مهمل في مخطوطة الخليقة،

نتحرّك على حواف الدهر كذرات غبارٍ عالقة في نسمة من أنفاس الأزل.

نُعمّر خرائب، نُهندس الحنين، نُسرف في توقيع الأسماء على لحظات لا نملكها،

ثم نُسحب بهدوء… كما يُسحب سطر زائد من قصيدة كاملة.

الوقت لا يلتفت.

والأرض تدور كمن يؤدي رقصة جنائزية لا نهاية لها.

أما نحن، ففي ركنٍ من ركنٍ من ركنٍ… ننسى أننا لا شيء،

نُمجّد صدى حيواتٍ لا تصدر صوتًا.

وحده العارف…

يعرف أن الخوف من الفناء لا يُشفى إلا بحضور المعنى،

وأن قلبًا مُعتقًا في ذكر الله لا يتفتت،

بل ينضج، ويهبط على أعتاب الرحمة كثمرة طيّبة.

يا صاحبي،

من جرح الفقد يُولد حسّ البقاء،

ومن ظلمة الهلع ينبثق نور التوحيد.

الكون قشرة،

والعُمْرُ ظِلٌّ لشمسٍ لا نراها،

لكنها ترانا.

فاصمت،

ليس لأن الصمت حكمة،

بل لأن الضجيج خيانة أمام هذا الجلال.

هذا الصباح، لا تكتفِ بالنظر…

بل انظر كما ينظر العارف:

بعينٍ مجروحة، وقلبٍ معقودٍ على باب الله.

 

***

 

 

تراتيل الناجين

يا من عبرتَ سهول الفناء، وعلّقتَ قلبك على مشجب الغيب...

تذكّر:

أنك لست إلا زهرةً أنبتها يد القدرة الإلهية في صحراء العدم، تظمأ مرارًا، ثم ترتوي بماء الغيب من حيث لا تدري.

ترفّق بنفسك،

فالعمر سفينةٌ من دخان، تتقاذفها أمواجُ القدر، ولا ربّان لها سواك في محراب الرجاء.

دع عنك قلاع الهوية الهشة، وتعلّق بجذرٍ يغوص في ملكوت السماء:

هناك، حيث تنسج الملائكة أردية الخلود لمن ثبت قلبه حين تصهل رياح الزوال.

سرْ خفيفًا،

فالأرض سكرى، والظلال مراوغة،

ولا يثبت فوقها إلا من علّق قلبه بنجمٍ لا يأفل:

"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا".

واحذر أن تخدعك أعراس السراب؛

فكلّ عرشٍ تقيمه على الرمال، ينهار عند أول آهةٍ يطلقها الزمن العابر.

واذكر، إذا هبّت ريح الفقد: أن أعظم الهوية، أن تعرف نفسك عبدًا، تعرف ربك مَلِكًا لا يزول.

 

***

 

سقوط ممالك الهوية

في البدء، كانت الهويةُ وهجًا من نفَس الله، نقشها الرحمن في ألواح القلب، وغرسها في تربة الفطرة الأولى.

كانت الأرواحُ طاهرةً تمشي تحت ظلال العهد القديم، قبل أن تهبّ ريح الزمن، فتبعثر الملامح كما تبعثر الريح أوراق الخريف.

الزمن، هذا الجندي الخفي في جيش القدر، لا يخطو إلا بإذن الله، ولا ينقض عهده إلا لحكمةٍ فوق مداركنا.

ولكنه يمضي، ينحت الوجوه بمدية الأيام، ويدفن فينا ممالك من الذكرى ونحن نظن أننا نحيا.

أرأيت وجهك حين تحدّق طويلاً؟

تلك التجاعيدُ ليست إلا خريطةَ رحلةٍ أجبرتَ على خوضها، وذلك الحزن العميقُ في العينين مرآةٌ لما سُلب منك دون أن تدرك متى أو كيف.

كلما نهضتَ تبني مجد نفسك، مدّ الزمن يده — بأمر مولاه — فهدم ما شيدت، ليذكّرك أنك عبدٌ موقوت، لا سيدٌ مخلد.

مملكتك الحقيقية ليست اسمًا ولا مظهرًا، بل سرٌّ دفينٌ بينك وبين الذي خلقك سميعًا بصيرًا.

أما الهوية التي تنحتها الأيام فمجرد وشمٍ على جلد الريح، تمحوه مطارق السنين بلا هوادة.

أيها السائر في برية الأعمار،

توقف لحظةً...

واسأل نفسك: كم مملكةً قُدّت من وهمٍ وظننتها أرضك؟

وكم مرةً بدّلت جلودك حتى حسبت أن التغيير خلاصٌ لا نهاية له؟

أفقْ!

الهوية الثابتة الوحيدة هي سِرُّ العبودية الخالصة، والانتماء الأزلي للحق الذي لا يزول.

وكل ما سواه، سرابٌ يحسبه الظمآن ماءً.

الزمن سيمضي، بأمر ربّه، يقلب الوجوه، ويختبر القلوب، ويبدل السنين؛

أما أنت، فتبقَ ما بقيتَ على العهد:

روحًا تنقش في سفر الغيب آثار التوحيد، حتى إذا أُذّنَ لرحيلك، حملت معك ميراثك الوحيد الذي لا يسقط:

(إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

ومع كل انهيار، ومع كل موسم سقوط، لم يبق إلا صوت خافت يهمس للناجين...

يتواصل