إعلانات

"غلفي"، هذا المغامر الفرنسي غريب الأطوار

أربعاء, 23/04/2025 - 01:24

د. محمد السالك إبراهيم

Med Saleck Brahim 

 

 

مرحبا أستاذ جمال، حياكم الله..

شوقتمونا لمطالعة مذكرات "غلفي"، هذا المغامر الفرنسي غريب الأطوار، الذي جمع بين المال والشهرة والأعمال والسياسة والمخابرات..

لقد وقفت على ذكر هذا الشخص، لأول مرة في الصفحة 6 من كراس يحمل محاضرة "بحرية" -بجميع المعاني- لخالي الفاضل حفظه الله، محمد سالم ولد احمدناه (وهو كما تعرفون من هو، في مجال الخبرة بأمور البحار كما أنه كان أول ضابط بحري يتخرج من الكليات الفرنسية وشارك في تأسيس سلاح البحرية الوطنية). وقد ألقيت تلك المحاضرة في مدرج كلية العلوم القانونية والاقتصادية، تحت عنوان "قانون البحار كأداة للتنمية"، ضمن ملتقى أكاديمي دولي تم تنظيمه في نواكشوط أيام 27، 28 و29 فبراير 1988 من طرف جامعة نواكشوط وجامعة نيس الفرنسية.

بعد ذلك بسنوات، قمت ببحث عن السيد "غلفي" وعلاقاته بموريتانيا ضمن نشاطات إعلامية تحضيرا للانتخابات البلدية سنة 1994. وكان ذلك آخر عهد لي بالموضوع، قبل أن يوقظ فضولي من جديد أخي وصديقي الصحفي الإستقصائي الألمعي أحمدو ولد محمد المصطفى الملقب الندى، عندما قصدني بسؤال عن شخص "غلفي"، سنة 2021، بعد أن وقف على ذكر له بلقبه "ديديه السردين" في بعض المذكرات..

كان السيد "أندريه غلفي" André GUELFI الملقب بـ "ديديه السردين" «Dédé la Sardine» رجل أعمال فرنسي ولد سنة 1919 في بلدة "مازاغان" بإقليم دكاله بالمغرب. وهي قرية برتغالية الأصل، ظلت تحمل هذه التسمية إلى أن هدمها البرتغاليون بعدما تأكدوا أن السلطان محمد بن عبد الله العلوي (حفيد العالمة الصالحة السيدة خناثة بنت الشيخ بكار المغفرية الشنقيطية)، قادم لفتحها؛ فسميت "المهدومة"، ولما أُعيد بناؤُها سنة 1832م أُطلق عليها اسم "الجديدة" زمن السلطان عبد الرحمن بن هشام (1789-1859)؛ ولكن بعد فرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912 أعاد إليها الفرنسيون اسم مازغان. وبعد الاستقلال سنة 1956م أعيد لها اسم الجديدة.

أما سبب شهرة السيد "أندريه غلفي" André GUELFI الملقب بـ "ديديه السردين" في موريتانيا، فهي تعود إلى كونه قد استجلب مطلع الستينيات، اسطول سفن-مصانع bataux-usines كانت تقوم بتجميد أسماك السردين التي يتم اصطيادها في المياه الموريتانية. ومن هنا جاء لقبه "ديديه السردين" الذي يبدو أنه لم يكن يعجبه إطلاقاً.

في أواخر الستينيات من القرن الماضي، كان "أندريه غلفي" سيئ السمعة لكونه مديرًا إداريًا سيئًا وفاشلا للغاية في تسييره لمجموعة كانت تتألف من شركتي صيد الأسماك في موريتانيا، هما SOMAP وSOMIP، وكلاهما كان ممولا باستثمارات فرنسية وموريتانية. وقد انتهت تلك المغامرة التجارية الصناعية بفشل ذريع، وخسارة مالية كبيرة بالنسبة للدولة الموريتانية.

لقد كانت SOMAP شركة مختلطة تم إنشاؤها في عام 1965 لتزويد البلاد بمعدات الصيد الصناعية. وقد امتلكت الحكومة الموريتانية 55٪ من أسهم تلك الشركة أي مبلغ 220 مليون فرنك أفريقي (30 مليون قدمتها ميزانية الدولة، و 50 مليون دعم فرنسي من صندوق المساعدة والتعاون (FAC)، و20 مليونًا من البنك الموريتاني للتنمية (BMD) و120 مليون تم إقراضها للحكومة من قبل صندوق التعاون الفرنسي. أما مساهمة الدولة الفرنسية في رأسمال الشركة فكانت تمثل نسبة 45٪.

قامت شركة SOMAP ما بين تاريخ إنشائها وسنة 1968، باقتناء 8 سفن ذات شبكات الجر chalutier بضمان من الحكومة الموريتانية، التي شاركت بالإضافة إلى ذلك، في زيادة رأس مال شركة SOMAP بمبلغ قدره 50 مليون فرنك أفريقي.

لكن الكارثة حلت في 31 يناير 1969، عندما أُعلن عن إفلاس شركة SOMAP، بينما هرب مديرها العام إلى الخارج، وهو لم يكن سوى السيد أندريه غلفي، تاركًا الدولة الموريتانية ترزح تحت دين قدره 2 مليار فرنك أفريقي آنذاك، حيث تم القرض بضمان موثق من الحكومة الموريتانية التي كانت تنتظر بفارغ الصبر جني أرباح من وراء إنشاء شركة SOMAP وتوأمها شركة SOMIP.

أما فيما يتعلق بشركة SOMIP، فقد سبق أن تم إنشاؤها جنبًا إلى جنب مع SOMAP في سنة 1966. وكان من المقرر أن تتولى شركة SOMIP تحويل الإنتاج السمكي الذي تصطاده شركة SOMAP، لأن SOMIP كانت متخصصة في صنع مسحوق السمك واستخراج الزيت. وقد حصلت الشركة على التمويل الأولي من طرف الحكومتين الفرنسية والموريتانية بالإضافة إلى شريك فرنسي ثالث. وقد تم الانتهاء من إقامة منشآتها سنة 1968، وكان يفترض أن طاقتها ستمكنها من معالجة 15 ألف طن من الأسماك سنويًا.. لكن للأسف، عندما أفلست SOMAP، أوقفت SOMIP جميع أنشطتها.

ويبدو بأن هذا "الكورسيكي" الفرنسي قد عاش ألف حياة، وألف مغامرة في إفريقيا وغيرها، قبل أن ينتهي به المطاف بالسجن في إطار ملف فضيحة "Elf" الذي جعله أكثر شهرة بسبب عمليات الاحتيال التي قام بها.

ومن المعروف بان المعني سبق له أن عمل منذ سنة 1943 في المكتب المركزي للاستخبارات والعمل (BCRA) في الجزائر العاصمة، وهو جهاز سري أنشأه الجنرال ديغول.

أما الصحافة والإعلام فلم يكتشفانه إلا في سنة 1997، عندما أمرت القاضية إيفا جولي، بإلقائه في السجن في قضية فضيحة شركة ألف Elf، بسبب العمولات الكبيرة جدًا التي كان يتقاضاها. لكن أحدًا في ذلك الوقت، لم يتساءل عن سبب استخدام دولة مثل فرنسا لشركة تدير منشأة صناعية في إمارة ليشتنشتاين -كان يملكها أندريه غلفي - من أجل شحن مئات الملايين من الفرنكات إلى فرنسا.

حُكم على أندريه غلفي في قضية Elf من طرف محكمة استئناف باريس في عام 2003، بتهمة إخفاء المسروقات، وإساءة استخدام الأصول الاجتماعية، بالسجن لمدة ثلاث سنوات منها 18 شهرًا مع وقف التنفيذ، وغرامة قدرها 1.5 مليون يورو.

أما في نواذيبو، فقد كان لدى السيد غلفي حانة وملهى ليلي يسمى "Clupea"، والذي تم تحويله بعد هروبه خارج البلاد، إلى نُزل يسمى "Hotel Imraguen" ليس بعيدًا من دار الضيافة الحكومية في حي أكراع النصراني. وقد بقي ذلك النزل موجودا إلى نهاية الثمانينيات على ما أذكره.

وقد توفي المغامر "غلفي" عن عمر يناهز 97 عامًا، في 28 يونيو 2016 في مالطا.

 

______________________

 

Ahmed Mahmoud Jemal Ahmedou

 

أندريه غيلفي (Guelfi )وموريتانيا: بين الجرأة الصناعية وخيبة الأمل السياسية

رحلة مغامر بحري في أرض الصحراء

في سيرته الذاتية التي تحمل عنوانًا معبّرًا “الأصلي، من قرية مغربية إلى أسرار فضيحة ELF”, يقدّم أندريه غيلفي شهادة مفعمة بالحيوية والمرارة عن تجربته في موريتانيا، حيث كانت هذه البلاد بالنسبة له أرضًا زاخرة بالفرص الواعدة، لكنها شكّلت أيضًا مسرحًا لانفصاله النهائي عن عالم البحر. غيلفي، رجل الأعمال صاحب الرؤية، والصناعي الجريء، والمستفز المُعلن، يكشف في هذا الفصل من حياته عن كل جوانب شخصيته بين الإنجازات اللافتة، وخيبات الأمل السياسية، والطُرَف الساخرة.

بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب مدينة أكادير سنة 1960 وتسبب في انهيار إمبراطوريته، توجّه غيلفي إلى المياه الغنية بالأسماك في بورت-إتيان (نواذيبو حاليًا)، حيث شرع في إعادة بناء ثروته. فأسس أسطولًا من السفن-المصانع الحديثة القادرة على تجميد السردين مباشرة في عرض البحر، وأطلق شركتين: سوماب (الشركة الموريتانية للصيد)، ثم سوميپ، وهما شاهدتان على حسه الاستثماري الحاد. وبفضل علاقاته المميزة مع الرئيس المختار ولد داداه، حصل على امتيازات في استغلال الموارد السمكية، وأقام إمبراطورية صناعية حقيقية.

وقد بلغت مشاريعه من الضخامة ما أثار إعجاب رؤساء منطقة غرب إفريقيا. ويروي، بطرافة لاذعة، واقعة استضافته لرؤساء مالي والسنغال وموريتانيا في مخازنه المبرّدة، حيث أغلق عليهم باب غرفة تجميد بدرجة -35 مئوية، مازحًا أنه تلقى أمرًا بـ”تجميدهم”. غضب رئيس مالي وخرج غاضبًا، بينما قابل كل من ليوبولد سيدار سنغور والمختار ولد داداه الموقف بروح الدعابة، والتقطوا معه صورة للذكرى.

لكن خلف هذا البريق، أخذت المغامرة منعطفًا مظلمًا. إذ اكتشف غيلفي أن أحد الوزراء الموريتانيين كان يطالب بعمولات سرية مقابل تمرير أنشطته. وفي مذكرة سرّية سلّمها شخصيًا للرئيس، شرح بالتفصيل المبالغ التي دُفعت بطريقة غير قانونية، ما أدى لاحقًا إلى اعتقال الوزير المعني. غير أن التوتر تصاعد عندما أصبح خليفته واني بيرام هدفًا لمؤامرة جديدة. وعندما تم استدعاء غيلفي إلى نواكشوط، أدرك سريعًا أن السلطات تحاول استغلاله للإطاحة بالوزير الجديد، الذي لم تكن له علاقة بالقضية.

رافضًا أن يكون أداة في صراع داخلي، قرر الانسحاب. وفي فاكس غاضب أرسله إلى الوزير الذي اتهمه بتدبير المكيدة، أعلن مغادرته النهائية لموريتانيا:

“بما أن الرئيس المختار (كما قيل لي) لا “يريد” استقبالي، فلن أعود أبدًا إلى بلاده. ومن باب الكرم، أقدّم له هدية: أتنازل له عن أسهمي في شركتي سوماب وسوميپ. وأتنبأ له بأن هاتين المؤسستين لن تلبثا أن تنهارا بعد رحيلي. ولم أنتظر طويلًا.”

كان هذا الرحيل المفاجئ إيذانًا بانتهاء علاقته بالبحر أيضًا:

“كانت تلك نهاية حكايتي مع البحر… أنا والبحر، انتهت قصتنا.”

ولم يحتفظ من مغامرته الموريتانية سوى بذكرى وحيدة: فاطمة، طباخته المغربية الوفية التي بقيت في خدمته ثلاثين عامًا، وتلك النبوءة المريرة التي همست بها له ذات مرة عرّافة:

“كل ما تبنيه على الماء، سينهار.”

من خلال هذا الفصل الموريتاني، لا يروي غيلفي جانبًا من سيرته فحسب، بل يكشف، دون مجاملة، عن كواليس السلطة والأعمال في إفريقيا الستينيات. بأسلوبه الحي وصراحته المعهودة، يضيء على التوتر بين الطموح الاقتصادي والمنطق السياسي، وعلى تضارب المصالح وصراعات النفوذ التي كانت تعصف بالدول الإفريقية الفتية بعد الاستقلال.

في موريتانيا كما في غيرها، كان غيلفي، المعروف بـديدي السردين، “الأصلي” بحق — رجل أعمال جريء، مستفز بامتياز، ولكن قبل كل شيء، شاهد بصير على قارة كانت في أوج تحوّلها.