
تأليف: المختار السالم
-11-
إن الصحراويين أهل هذه الصحراء المترامية الأطراف برافديهم الرئيسيين، بني حسان المعقليين وصنهاجة الملثمين، هم من بنوا الأساس الصلب للمغرب الأقصى وللمغرب الكبير وكانت الدول التي أسّسوا كالمرابطين والموحدين هي أكثر الدول المغاربية بل الإسلامية اتساعاً جغرافيا بل من أكبر الدول مساحة عبر التاريخ.
إن أهل الصحراء منذ المدراريين والمرابطين والموحدين هم من أسّس الدولة المغاربية الكبرى التي لم تمتدّ بعدهم على أوسع مما أسّسوه.
وكان جدي يوسف بن تاشفين أول من نشر المدارس في المغرب إلى جانب المساجد ولعب المرابطون دورًا كبيرا في دمج المجتمعات المغاربية وصهرها كمجتمع واحد، ولعله في هذا المقام يكفينا أن نذكر فقط المثال البالغ الرمزية الذي جسّدهما قام به يوسف بن تاشفين في مدينة فاس وحدها حين دمر الأسوار التي تفصل فاس القديمة عن العالية وجمع العدوتين عدوة القرويين وعدوة الأندلس المتنافرتين وجعلهما مدينة واحدة لها سور واحد وقصبة واحدة وحامية واحدة وأعطى لجامع القرويين مكانته المركزية، أقول علَّ ذلك المثال من بين آلاف الأمثلة المشابهة يكفي لتفعيل ذاكرتنا النائمة، وقد امتدّ التأثير التأسيسي للمرابطين عميقا في المخيلة الجماعية للمجتمع والأمة و ما يزال.
إن العالم اليوم على أبواب منعطفات طفروية، على أبواب زلازل جيواستراتيجية، والمشاريع التي تُغيّر مجرى التاريخ تحتاج إلى من يمتلكون حسّا تاريخيا بمستوى اللحظة التاريخية، تحتاج إلى أياد غير مرتعشة. يحتاج ذلك صنّاعَ قرار قادرين على مراجعة فشل المشاريع التنموية في المنطقة وفشل المشاريع القطْرية والوحدوية معا، ليس من منطلق أصحاب الانكماش ودعاة البقاء خارج التاريخ، الذين يشعرون اليوم بغبطة انتصار الظلام، بغبطة مفردات الزمن الحالكِ، ولكن من منطلق إعادة صياغة مشروع الوحدة وتشييده على مرتكزات أكثر جديّة وأكثر وعيًا للممكن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أكثر وعيا بموازين القوى المؤيدة والمعيقةِ.
نعم نحتاج إلى العمل جديّا على الخروج بشكل حاسم تاريخي من فخّ القفص القطْريّ الاستعماريّ، فإما الخروج من زنازين القطْرية المنافية لمنطق التاريخ أو الخروج تاريخيا من كلّ التاريخ، أي الانحدار أكثر نحو هامش الهامش.
الدويلات القطْرية التي ورثناها عن الاستعمار كانت معسكرات جماعية وأصبحت معسكرات جماعية ولكن هذه المرّة بشكل زنازين محكمة الإغلاق في عالم وعلاقات دولية لم يعد فيها مكانٌ إلا للدول التي تضمّ مئات الملايين وتتمتع بفضاء جغرافيّ يناسب حجمها الديمغرافيّ.
إنّ الدول القطرية هي التي ورثت جينيا الحدود الموروثة عن التقسيم الإداري الاستعماري وعمّقته بدرجة أنّ ما كان ممكنا خلال الحقبة الاستعمارية من تنقل للأفراد والأموال داخل مستعمرات نفس الإمبراطورية، أي داخل ولايات المستعمرات، لم يعد ممكنًا، فقد أصبحت الدوائر والولايات الاستعمارية تسمّى دولا ذات سيادة وحرس حدود وبطاقات هويّة لا تمنح هويّة وجوازات سفر لا تسمح بالسفر.
في جميع الأحوال، وبعيدًا عن أوهام القوّة والاستقلال والسيادةِ، وكل المفردات الفارغة أو المفرغّة، التي تسيطر على العقول المستقيلة لبعض آديولوجيي الدول القطْرية، فإنّ كل معطيات التحولات الجيواستراتيجية الحالية تضطرنا إلى أن نقول إنه إذا أراد المغرب الأوسط، أي الجزائر والمغرب الأقصى أي موريتانيا والمملكة، أن يخرجا من هامش التاريخ، وأن يتفاديا عوامل التفكّك الجهوي والعرقيّ واللسانيّ، التي تهددها جديا، فليس أمامها سوى أن تتكتّل سياسيا فدراليا أو كونفدراليا... إلخ. وليس ذلك بمستحيل إذا وُجِّهتْ أو اتجهتْ إليه إرادة الشعوب، وإذا أخذ الكلمة العمومية من يمتلكون حسّا تاريخيا بمستوى اللحظة. وأول شرط لذلك هو وجود رأي عام يستطيع أن يقف في وجه المفردات المريضة، التي ما زال يكرّرها بمناسبة وبدون مناسبة من ما زالوا يعيشون عصر داحس والغبراء... عصر "دابراء".
-12-
نحن كشعوب أصبحنا خدما لأهداف الاستعمار في مقسماته ومجزءاته ومفتتاتهِ.. يا له من عار!
كل زعيم مغاربي يقْسم على المصحف بحفظ حدود الاستعمار. أيّ غرابة هذه!!
الفضاءات المجزأة لا يمكن أن تتحوّل إلى أمة مطلقا. لن تصبح هناك أمة في قطْر معين حتى لو امتلكت قنبلة نووية ستبقى ضعيفة وبلا حماية حضارية، وبلا سوق وبلا إمكانات علمية، ذلك أنّ "السعة البشرية" لا غنى عنها لصفة الأمة ولقوتها، فدولة لا تتجاوز في أقل تقدير مائتي مليون نسمة لا تملك مقومات الدولة في عصرنا هذا.
لذلك حرص الاستعمار على فرض الدولة القطْرية وعلى تقديسها عجلاً بخوارهِ الذي أصبحت النخب تسجد له، ويا للغرابة، باسم السيادة والكرامة والوطنية.
ويعرف المغاربي في قرارة نفسهِ أيا تكن الأوراق "غير" الثّبوتية التي يحمل أن مشكلته ليست أشقاءه الذين قرّرت يوما إدارة أجنبية أنهم ينتمون لقطر آخر واخترعت لهم أوراقا "غير" ثبوتية أخرى. يعرف أن مشكلته أن الأوراق التي يحمل ليست إلا حملا يثقل كاهله، يعرف أن بطاقة الهويّة التي يحمل هي في الحقيقة بطاقة إلغاء هويّة وأن جواز سفره لا يسمح له بالسفر، يعرف أن لا دولة له ولا جواز ولا سفر وأن تعريف دولته بالحدودِ ليس أكثر من تعريف الزّنزانة بجدرانها التي لا تحمي ساكنها بل "تحمي" منه، لا تمنحه بل تمنعه حتّى من هواء كاف للتنفسِ، وتصادر حقّه في الشّمس، بل في الحياةِ.
إنّ الدول القطرية هي فخّ التحرير وفخ التنمية وفخّ الدولة، إنها زنزانات لا أكثر. وما لم يُعد التفكير فيها جديّا لتجاوزها فإن انسدادات عظمى تنتظرنا في عالمٍ لم يعد يعترف إلا بالدّول التي كل واحدة منها بحجم قارّة أو بحجم حضارةِ كالصين والهند وروسيا والولايات المتحدة، أما دول الأقفاص التي تستجدي التأشيرات لأعضاء حكومتها ولأبنائهم فصراعها بينها وتفاخرها واعتدادها وتراشقها البينيّ وتعيير فقيرها المسكين للأكثر منه فقرا ومسكنة مثير للشفقة.
نعم المغرب الأقصى حتى لو قسمه الفرنسيون والإسبان ألفَ دولة فهو دولة واحدة والمغرب الأقصى والأوسط والأدنى مغرب واحد. والدولة الكبلانية والدولة اليوتية والدولة البجوية لا تلزم إلا كبلاني واليوتيهِ وبيجو وتابعيهم وتابعي تابعيهم.
وإذا كانت الوطنية هي الوفاء للجنرال أفيدرب والجنرال غاليني والجنرال غورو والجنرال اليوتي وخرائطهم وحدودهم وتقسيماتهم الإدارية ومسمياتهم فهي وطنية حَرية بأن نتبرأ منها تحديدا باسم الوطن، حرية بأن نتبرأ منها دينيا وأخلاقيا وتاريخيا وكبريائيا. حرية بأن نتبرأ منها إن كنّا ما زلنا نحتفظ ببقية كرامة.
-13-
حتى في خضمّ أزمات محلية مشتعلة تمزقهم وتهدّد وجودهم، أشعل "البيظان" حرب هجوم وشتائم ردّا على رأي شخص مغربي قال إن موريتانيا مغربية!
فجأة لم تزكم حرائق الكراهية والبغض المشتعلة من "باريس" أنف الصحراويين، الذينَ حرصوا على إشعال كل مودّة مع امتداهم المغربي رفضًا لتصريح شخص ليست له أي صفة رسمية أو إدارية. لقد كان مجرد مسؤول حزبي هو حميد شباط.
وتبع ذلك الحملة على العالم الجليل أحمد الريسوني لأن الرجل يرفض تقسيم أرض المغرب الأقصى والأوسط والأدنى وغيرها وفق هذا "اللعان الجغرافي" المريض.
الصحراويون كما قال يوما باهي محمد هم من بنوا الأساس الصلب للمغرب الكبير، وذات مرّة قال أحد الوزراء الموريتانيين ردّا على مسؤول حزب الاستقلال المغربي: "نحن بناة مراكش والمنتصرون في الزلاقة". وفي الحقيقة ردّ الوزير على نفسه لا على المغربي مؤكدا عن غير وعي الصيغةَ التي تلفظ بها المغربي عن موريتانية المغرب أو مغربية موريتانيا لا فرق.
قال علال الفاسي إنّ شنقيط أو موريتانيا جزء من الفضاء التاريخي لما أصبح المملكة المغربية. رد المختار ولد داداه بل المملكة المغربية هي التي تمثل جزء من موريتانيا حيث مثلتْ جزءً من امبراطورية المرابطين التي نشأتْ في جنوب غرب ما أصبح يعرف بموريتانيا. في الحقيقة ما قاله الفاسي وولد داداه ليس إلا شيئا واحدا واختلافهما هو فقط في العبارات. كلاهما يدافع عن الوحدة بمنطق قطري بدل أن يدافع عن الوحدة بمنقط وحدويّ. كلاهما ينظر إلى التّاريخ بمنطق إسقاط ال "بعد" على ال "قبل"، ولكن كليهما يقولانِ بأن موريتانيا والمملكة جزءان من كلّ واحد هو المغرب الأقصى ومن كلّ أشمل هو المغرب، المغرب الذي يضمّ المغرب الأقصى والأوسط والأدنى، كلاهما يعرف أنّهُ يتحدث عن جزء من كلّ ظهرتْ فيهِ نفس الدول ونفس الإمبراطوريات ونفس القبائل، ونفس الدين، ونفس المذهب، ونفس المتون التعليمية العتيقة، ونفس المحاظر والزوايا، ونفس الطرق الصوفية، ويأكل نفس الكسكس ويشرب نفس الشاي الأخضر و"يُـعمّر" نفس "البراد" ويستعمل نفس الكؤوس إلخ إلخ.
كيف صارت الوحدة المغربية أو المغاربية عيبا؟ كيف صارت كل مطالبة بالوحدة هي تعدّ على "السيادة الوطنية"؟ وأي سيادة وطنية لأخماس وأسداس دويلات، تتسوّل حماية الغرب وتدفع له الجزية صاغرة تحت مسميات الحماية الأمنية، أو العلاقات الثنائية، التي هي تحريفٌ إسميٌّ لعلاقات التبعية، وللخضوع الذليل الأرعن، الذي يتساوقُ مع ساقِ الشيطانِ وخطوهِ وأشجاره المأكولة وغير المأكولة على ما تُهينُ من عورات مكشوفة وغير مكشوفة؟!
هل كل طموحنا هو أن نظل ملفّا أو ملفات تستخدمها بعض الأنظمة المغاربية لتصفية حساباتها الضيقة مع أنظمة مغاربية أخرى أو لتبرير فشلها سياساتها التنموية أو نجاح خططها اللاتنموية؟
هل كل طموحنا أن نظل الشماعة التي تعلق عليها الأنظمة المغاربية فشل الوحدة والتكامل فشل التعليم والصحة والعدالة والإقلاع الاقتصادي، تبرر بها إجراءاتها الأمنية وصراعاتها البينية واحتقارها لأمل الشعوب المغاربية المؤجل دائما في حد أدنى من الوحدة، في حد أدنى من الحرية، في حد أدنى من الحياة الكريمة؟
هل نريد أن نبقى مجرد ملف ضغط في بعض الأروقة يستخدمه هذا النظام أو ذاك حسب مزاجه وصراعاته الديكية مع شقيقه؟
-14-
كل يوم نمضيه في بناء دولة قطْرية أو إنشائها خارج إطار الوحدة الشاملة حتى لو انطلقنا من أحسن النيات وحققنا أحسن الانجازات ــ مع أننا في الواقع لم نحقّق بعد أي إنجاز جدّي ــ فهو يوم ضائع لأنه يتجه عكس مسار التاريخ. إننا كمن يضع قطعة أرض تحت حراسة كبار قطاع الطرق ثم في أحسن الأحوال يكرّس جهده لبنائها وتحسينها لأجلهم. كل البلدان المغاربية هي حاليا محميات أجنبية بنسبة أو أخرى تخنقها نخبٌ أو مجموعات متنفذة أولُ مهماتها تأبيد التفكك حماية لمصالح محركيها الخارجيين وتوظّف بشكل مباشر أو غير مباشر جيوشاً من الذباب الألكتروني وغير الأكتروني مهمته التراشق وتبرير التفكّك وشغل الناس عن أولياتهم. ولا يمكننا الخروج من هذه الوضعية دون تكريس جهودنا ليل نهار لتحقيق التكامل والوحدة.
مقاس منطق الدولة القطرية فخّ استعماريّ ليس فقط لأنه لا يتماهى مع منطق التحرير والاستقلال والتنمية والسيادة الفعلية بل لأنه أكثر من ذلك مناقض له. الدولة القطرية الموروثة عن الاستعمار، كما انتبه لذلك كثير من قادة التحرير في إفريقيا وآسيا أواخر الخمسينات عشيّة وغداة ما سميّ بالاستقلالات، هي دولةٌ فخٌّ، "دولةٌ نكتةٌ"، وُجدتْ لتوهم بوجودها ولكن لتبقى في إطار دولة الإمبراطورية الاستعمارية وعلى مقاس مصالحها.
ماذا سيعني موقف جيلنا أخلاقيا وسياسيا للأجيال القادمة إذا لم نورثهم غير التفكّك والصراعات الصغيرةَ واقتتال قابيل وهابيل وإعادة أشواط السباق بين داحس والغبراء.
ردًّا على تيار "الدّولة" و"السّيادة"، ماذا حققت موريتانيا بعد أكثر من ستين سنة من الاستقلال؟ إذْ هي لا تعرف حتى بين مواطنيها وغيرهم، وما تزالُ تعيش على القطّارة تسوّلا وصدقاتٍ دون بنية تحتية ودون مؤسسية قابلة للصمودِ أمام زحف مسلح أو غير مسلح؟!
دولة لا تصلح مستشفياتها ولا مدارسها مربطًا للحمير، وتتوهم نخبتها كل دجاجة مدجنة.
ردا على تيار "الدولة" و"السيادة"، ماذا حقّقت موريتانيا بعد أكثر من ستين سنة مما ندعي أنه الاستقلال؟
ردًّا على تيار "الدّولة" و"السّيادة"، ومقولة مثلث "الثروة والثقافة والسلاح"، نتذكر ما قاله أحد المفكرين من أنَّه يمكنك أن تسيطر على القمة لكن لا يمكنك أن تتحكم في الزلازلِ من تحت قدميك أبدًا.
ثم، ماذا عن هذه الدولة غدا، ووفقَ المؤشرات الحالية، التي وصلتْ حدّ الفوضى والإنهاك المعنوي، ولدرجة يبذل فيها السلك الديبلوماسي أقصى جهده للسيطرة على ابتسامته الساخرة أمام مشهد دولة تنتقل بكل قياداتها المدنية والعسكرية لتشهد تدشين جسر صغير كسيح التصميم، وكأنه تدشين محطة فضائية على كوكب آخر؟!
من المؤلم أن ترى أمة عظيمة تقبل أن تكون أداة طيعة بل متحمّسة لتنفيذ مخططات تفكيكها وطمرها.
- يتبع -
مواد ذات صلة:
هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (8 و9 و10 من 17)
هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (5 و6 و7 من 17)
هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (3 من 17)