-5-
برزتْ خلال العشرية الماضية، ولأول مرّة، أسئلة الحرب الأهلية في موريتانيا، ولعلّ الكثيرين لا يعلمون أن تنظيم "القاعدة" هو الوحيد الذي له فضل في استمرار وحدة موريتانيا ومنع الحرب الأهلية فيها حتى الآن، إذْ تسبب اجتياح السلفية القتالية لحدود موريتانيا، ووصولها حدّ القتال في حيّ "سانتر أمتير"، وتنظيم حفلات الزّفاف لأعضائها في "الحيّ الرئاسي"، بتدخل الغرب لفرملة "الملف العرقي" في موريتانيا لصالح إعادة تكوين وتدريب الجيش والأمن، لأن الغرب لا يمكن أن يسمح بدولة "تورا بورا" على حدود أمريكا وأوروبا البحرية، وقد أصبحت موريتانيا على مرمى حجر من كتائب الجيش الروسي في مالي واتشاد وليبيا ووسط إفريقيا.
الغرب يدرك معنى أن تتاح الفرصة لقيام "رباط جهاد" في مكان هو برمزية مهد المرابطين. حيث أسّس "البيظان" إمبراطورية منطلقين من مكان فارغ تمامًا لم يكن إلا "تيدرة"، التي أصبحت اليوم وكرًا للطُّيور المهاجرةِ.
ومع ذلك، وبرعاية مباشرة، ركّز الغرب عبر منظماته وتنظيماته، على تهيئة المجتمع الموريتاني للتفكيك والتناحر، وقد وصل في ذلك حدّ تعريف هويّة الشخص بلونه، مع تركيز شديد على اختراع فكرة وجود "لابارتايد عربي" يسعى لفرض العربية وقيم الإسلام.
من خلال نتف من الآراء والمقالات والخواطر تجلّت "آليات الصالونات في نواكشوط" بين حين وآخر، ومن خلال رصد تلك الآليات إليكم ما يُطرح منذ العشر سنوات الأخيرة في مجالس "البيظان".
فريق مستمر في "نعاميّته" برع في تأبير الرمل ليزداد وأدا لكل معقولية.
هذا الفريق يرى أن موريتانيا دولة مستقلة ذات سيادة وأنها بلد آمن، وكل ما تتطلبه هو محاربة الفساد، وإن كانت تعاني من مشاكل ككل دول العالم.
هذا الفريق يرى أنّ إثارة أسئلة المستقبل ما هي إلا صيد في المياه العكرة، وعمل "معارضة" غير وطنية، بل عميلة أجيرة. ويورد في ردوده أن "البيظان" هم كل شيء في البلد، فالثروة بيدهم، والثقافة، والسلاح، فهم من يتصرف في البلد ولا يمكن أن يحدث أي تغيير لا يقودونه.
فريق يرى أن الصحراويين ليس لهم إلا التيه في صحاراهم البعيدة، أن يغرقوا في بحر رمالهم، وأن موريتانيا انتهت كـ"دولة بيظان" وأنها مهدّدة، وأن مجتمع "البيظان" نفسه يعاني خللا كبيرا، وقد تضافرت عليه مسلكيات اجتماعية كنبذ العمل، وإدمان الاستهلاك، والتناحر القبلي مع تراجع الخصوبة، ليتحول إلى أقلية في بحر هائج منسوبه لا يعرف التراجع، وهو ما آذن باقتراب "الأغلبية الصحراوية" الوحيدة في المنطقة من صفة الأقلية، لتلتحق بأقليات صحراوية بالغة الفشل في البلدان المجاورة، في المغارب والساحل.
ومع ذلك لا يملك هذا الفريق رؤية واضحة نحو المستقبل، ويتم في أوساطه تداول "مقترحات" تأمينية، كالسعي لوصول عربي أسمر للرئاسة، كنوع من ضمان وحدة الأغلبية العربية، مع الإصرار على تحسين التجربة الديمقراطية، والعمل على ملف التعايش العرقي بين مكونات المجتمع الموريتاني التي يجمعها الدين والنسب والتاريخ إلى غير ذلك من مقاطع الأغنية الرومانسية المعروفة.
فريق آخر، يرى أن نهاية موريتانيا كدولة مسألة حتمية، وأنها أصبحت عامل وقت فحسب، ولا يرى في الأفق غير الحرب الأهلية والتقسيم، وهو في سبيل ذلك أخذ في تجهيز عدّته للهجرة، أو الحرب.
يركز هؤلاء على كمّ هائل من المعطيات، ففضلا عن الملف الاجتماعي ومنعطفاته الحادّة، يستحضر بعضهم جيّدا كيف تـَجَوّل نشطاء عالميون ضد العولمة في بيوت شخصيات نواكشوطية عام 2005، محذرين من التقسيم المبيّت لموريتانيا إلى خمس دول.
كان هنالك منذ زمن من يتحدّث عن انفصال الجنوب. في الفترة الأخيرة بدأت أصوات تتحدث عن "انفصال الشمال النافع" الذي يضم أهم ثروات البلاد (المناجم والسّمك)، وهذه الأصوات من الجنوب ومن الشمالِ، لا يعلو دخانها دون نار، ودون "ملف الصحراء" الذي لا يمكن طيّه من دون فتح ملف تيندوف، التي قد يلجأ لاجئوها إلى أرضهم التاريخية في موريتانيا كما في الساقية والوادي لأنهم أولى بها من مهاجرين آخرين، ومهما يكن لا يستبعد أن يكون حل مشكل الصحراء على حساب الأرض الموريتانية "أرض البيظان التاريخية"، ولا يُعرف بالضبط ما هو ضروري من ذلك لتعويض خفّي حنين الذي أنجبته حرب الصحراء العبثية غير الولود إلا للكوارث وللأسئلة المسكوت عنها.
-6-
إن زمن الدول المجهرية في العالم انتهى، والقيم الإنسانية والديمقراطية لم تعد للأسف مطلبا في هذه الأيام، فالبشرية على وشك أن تعود للاستعمار المسلح المباشر، مع ابتلاع بوتين لأوكرانيا، ونيّة أميركا ضمّ كندا، وغيرها!
لا تشكّل موريتانيا "أولوية" كبيرة للغرب إن تطلبتْ مصلحتُه إلغاءها، كما هي ليست أولوية أكبر من أن يعاد منها تدوير كيان آخر، فيخرج منها حيّا أو ميّتا حسب هواه.
هل هناك نيّة لاستباق الإرادات بما فيها من تخمينات ومخطّطات؟
إنّ عيون الببغاوات قد تسبق صوتَها! وإنّ من يستبعدون تضاعف حضور أمريكا في المنطقة، وهي التي تكثّف حضورها حتى في كواكب خارج الأرض، لا يحسنون قراءةَ الجغرافية المتحولة. هل نتوهم أن هذا العالم الذي لا يعترف إلا بالقوي سيتسامح معنا أكثر بعد أن نصبح بالنسبة للأوربيين والغربيين نقطة تفتيش ونقطة تموين بالغاز.
إن موريتانيا التي عرفنا ونعرف وطن يتحجم إلى مستوى عود ثقاب، وإنّ صليل الفؤوس ونعيب الغربان آخذٌ في العلوّ أكبر من وظيفة الأذن، لقد ارتفع صوت التمزيق أعلى من المستوى الذي يسمعه الإنسان هنا، فهل نخطّط برفاهية وإبداعية لحلّ تاريخي حضاري جوهري، أم نجلس في انتظار العاصفةِ، بما فيها من أعاصير وصواعق؟!
إنّ موريتانيا صارت بحجم عود ثقاب، قابل للاشتعال من أيّ مكان تموضع فيهِ الكبريت، والكبريت يحوّل أي طرف في العودِ إلى رأس للاشتعال.
إنّ الصحراويين في موريتانيا أو في المملكة أو في الجزائر أو في الشتات أعني كل الناطقين بالعربية الحسّانية يمكن أن يلعبوا، إن أرادوا بعزيمتهم المعقلية الحسّانية والصنهاجية المرابطية والمصمودية الموحدية، دورًا محوريّا لتحقيق الوحدة بدل أن يكونوا أداة تفكيك، يمكن أن يجمعوا المغرب الأقصى والأوسط بدل أن يظلوا فحم نار صراعهما العبثيّ. يمكن أن ينتقلوا من انكماش وانقباض المنهزم أمام التاريخ والمرتمي في هوامش الجغرافيا إلى انفتاح المنتصر الذي لا يقبل إلا أن يستعيد مشعلَ أكثر مراحل أسلافهِ ضياء وملحميّةً. يمكن أن يقطعوا مع عقلية الهزيمةِ والاستسلام للهامشيةِ ويستعيدوا زمام المبادرة التاريخية، أن يستعيدوا مشعل الفعلِ والانتصار. إما أن يصبحوا أبطال الوحدة أو أن يبقوا أداة التفرقة ذريعة لتأبيد الصراع المغربي الجزائري، وسيلةً لتعطيل عجلة الوحدة المغاربية، هراوة لكبح طموح الشعوب المغاربية، ظهيرا لتأجيل العمل الوحدويّ إلى ما لا نهاية.
إنّ الصحراويين هم المكوّنة المغاربية الوحيدة التي إن أصرت على الوحدة المغاربية تمتلك الأدوات الأكثر نجاعة من أجلها إقليميا وجيواستراتيجيا.
-7-
أول نجاح حقّقه الاستعمار هو جعلُ الدعوة للوحدة المغربية أو المغاربية أو العربية "جريمة وطنية"، القبول بحدود الوطن الحالي هو قبول بحدود الاستعمار، التي فصّلها لمصلحته، هكذا صار كل صحراوي أو "بيظاني" بل كل مغربي أو مغاربي أو عربي يتغنى بحدود الاستعمار، وأصبح الجزء أقدس من الكل، فأصبح الجزائري يرى الجزائر أكثر أهمية من المغرب الكبير، والمغربي يَعتبر المملكة المغربية أكبرَ من المغرب الأقصى ومن المغرب الأشمل. الحصاة أهم من الجبل، والقطرة أندى من البحر.
نعم، المغرب الذي صنّفه المؤلفون العرب القدماء إجرائيا كـ"أدنى" و"أوسط" و"أقصى"، مغربٌ واحد منذ العهود القديمةِ، منذ ما قبل الحقبةِ الفينيقيةِ، وطبعا خلال الحقبة الرومانيةِ، ثمّ كانت حقبة الاندماج الأكبرِ مع الإمبراطوريات المرابطية والموحديةِ والفاطمية إلخ مع العهد الإسلامي.
عوامل الاختلاط والامتزاج والاندماج في بلدان المغرب أشدّ بداهة من أن تحتاج إلى بسط.
فالتاريخ والجغرافيا واللسان أو الألسن واللهجات كلها واحدة، والمجتمعات المغربية أو المغاربية متداخلة إلى حدّ الإفراط. ولكن كيف نستثمر هذا التاريخ ليكون عامل قوة في الحاضر والمستقبل؟
هل نفكّكه عبر سرديات عبثيّة يصوغها كلّ قطر على حدة، أيّ كل قطعة رسم حدودها الاستعمارُ؟ هل نستثمره سلبيًّا لتجذير خلافات عقارية عبثية خلقها منذ عقودٍ قليلةٍ ضابط فرنسي مغرور قليل التعليم أو ضابط إسباني أشدّ غرورا وأقلّ تعلّما لأجل ما يظنّه هذا الضابط الأجنبيّ أو ذلك مصالح بلده هو حينها؟
ليس في بلدان المغرب شبرٌ إلا وينتمي لكلّ بلدان المغرب، وليس في بلدان المغرب شبرٌ إلا ويمكن إثبات انتمائه تاريخيّا للبلد المغربي أو المغاربي المجاور وعكسيًّا إثبات انتماء البلد المجاور له.
ليس فيها شبرٌ إلا وحَكمتْهُ دولة أو إمارة عاصمتها أو جذورها القبلية تنتمي إلى بلد مغربيٍّ آخر من البلدان الخمسةِ. هل هي إذن كما صورها شاعر موريتاني ذات يوم يدٌ واحدة بأصابع متضافرة أم أصابع مقطوعة كلّ منها بدل أن تشير إلى الاتجاه الواحدِ تمتدّ تهديدا إلى الأصابع الأخرى!
مرّة أخرى السؤال المركزيّ إذن هو: كيف نستثمر إيجابيا هذا التاريخ الطويل المشترك فعلاً؟
هل نستثمره لتأبيدِ ثارات داحس وغبراء بدائية صنعها الاستشراق العسكري الفرنسي أو الإسباني ليضمن بقاء المنطقة خارج التاريخ؟
هل نستثمر هذا التاريخ المشترك من أجل العودةِ إلى التاريخ أم من أجل البقاء خارجه؟
هل نريد أن نواصل ثارات داحس وغبراء لا نهائية لا هدف لها سوى إبقائنا خارج كلّ حساب وإبقاء المظلات الأجنبية المهيمنة فوق كل حساب؟
هل نريد أن نستمرّ في تغذية هذه الثارات الصغيرة وفاءً للجنرال أفيدرب والجنرال غورو والجنرال ليوتيه وانسجاما مع أنانية الالتصاق بالكراسي التي ترى كل تكامل أو وحدة تهديدا لامتيازاتها وحماها الذي كلّفتها هذه المظلة الأجنبية أو تلك بحراستهِ؟
كيف صارت الوحدة المغربية أو المغاربية أو العربية عيبا! كيف صارت كل مطالبة بتوحيد المفكك تعدٍّ على "السيادة الوطنية"؟
يتبع -
مواد ذات صلة:
هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (1 من 17)
هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (2 من 17)