إعلانات

هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (8 و9 و10 من 17)

ثلاثاء, 22/04/2025 - 00:28

 

-8-

 

لقد نجحتْ الدعاية الأجنبية ومعها أنصار الكراسي الموروثة عنها في تكريس أدبيات شيطنة الشقيق الجار ولم يعد الشقيق شريكا وإنما عدوّا. أكثر من ذلك أصبحت النخب النافذة في العقود الأخيرة بعد أن كانت مناهضة لعنتريات "النحن والهم" الموروثة عن الاستعمار منخرطة في الدعاية الرسمية المشيطنة للجار. وأمام انهيار أغلب الحواضن المؤسسية الغير مستتبعة من طرف الأنظمة، لم تعد النخب قادرة على مناهضة غوغائية الشارع والشارع الرقميّ بشكل خاص، الموجه سلطويا وأمنيا. حتى النخب الثقافية والأكاديمية أصبحت مخيّرة بين الاستقالة من المجال العمومي أو مجاملة الشارع الموجه أمنيّا، أي بشكل صريح أو مضمر مجاملة ذاك الخطاب الرسميّ المحلي أو الرسمي الخارجي مجاملة تقوم مقام تبنيهِ.. حتى حين تحاول هذه النخب انتقاد نقاط من هذا الخطاب فهي مضطرة أن تمهد لذلك وأن توازنه بمجاملة الشارع الموجَّه، أي أن تدفع مقابل ذلك مجاملة لأبرز مفردات الخطاب السائد، خطاب الزنازين القطْرية المحكمة الإغلاق التي كرّست لها مدونات مدرسية وإعلام و"مؤرخون" ومنظرون... إلخ.

من بين مثقفي اليوم لا يبرز أي صوت لزهير بن أبي سلمى، وهو الرّمز الشهير لدور مثقفي هذه الأمّة حتّى قبل الإسلام، فما بالك بالمحجة البيضاء التي تفرض الوحدة فرضًا جازماً قاطعاً!

لا أحد في العالم ينظر إلينا جديا كدول وإنما كمحطات وظيفية أمنيّة وعقاريّة. نحن كوانتنموهات موسّعة الأدوار.

ما الذي حققتْه الدول القطْرية الموروثة عن الاستعمار حتى نعتبرها المشروع الواقعي الوحيد القابل للتحقيق؟ كلنا دول موروثة عن الاستعمار، موروثة عن تقطيعه الإداري والعقاريّ، موروثة عن مقاساته الحدودية وحتى عن زلاته اللفظية والنفسية.

قد تختلف تعابير عنتريات الذين يتراشقون في الإعلام البديل الموجّه ولكنهم جميعا يقولون الشيء نفسه حتى ولو توهموا أن مقولاتهم متضاربة، فهم جميعاً ونحن جميعًا مهما اختلفت الكلمات نكرر "أنا الحدود" وبالتالي البلدان المغاربية في بنيتها الجغرافية والديمغرافية الحالية نتاج تقطيع عقاري استعماريّ ونتاج المفاهيم والتصورات التي تقف خلف هذا التقطيع. نحن لسنا سوى محميات أجنبية، محميات لا تحمي سكانها ولكن تحمي كراسي حكامها ومصالح وحدود الذين منحوهم مؤقّتا هذه الكراسي.

حتى اسمنا موريتانيا ليس منّا، مفردة وُسِمنا بها دون استشارة لنا كي تنضم للمفردات الأخرى ك"الدولة" و"السيادة" و"الحدود" و"جواز السفر"... إلخ. سمونا موريتانيا ومطلوب منا أن نقبل، وأن نقبل الميسم أو القيد كما قبلنا المفردات والمفاهيم الأخرى كقيود وكمامات... لم نحتفظ بأي اسم من أسمائنا التاريخية لا شنقيط ولا المغرب الأقصى، ولا أقصى المغرب الأقصى كما كان يقول الشيخ ماء العينين ولا حتى الصحراء وبلاد الملثمين، بالنسبة لهم لا نستحق من الأسماء إلا الاسم الذي وضعوه لنا، الاسم الذي أرادوا من خلاله أن يحمل في مبناه ومعناه كلما ذُكرَ نطقاً أو كتابةً غربتنا عن أنفسنا، غربتنا عن أرضنا وعن تاريخنا، غربتنا عن لساننا وعن وعينا.

 

-9-

إن موريتانيا معنى ومبنى هي بصمة ووصمة كزافييه كبلاني والجنرال غورو وجاك فوكار ومن تبعهم بغير إحسان، وما زلنا نحن أوفياء لهذا العار، ما زلنا أوفياء لتأتأة التاريخ.

لقد كان أحد الذين نظروا لابتعادنا عن عمقنا المغربي والمغاربي هو الجنرال أفيدرب الذي قال عن نهر السنغال إن الأوربيين سموه على صنهاجة لأنها، كما قال، لعبتْ دورا كبيرا في التاريخ، يقصد حركة المرابطين ولكنه عاد ليقول إن صنهاجة ابتعدتْ عن التاريخ وإن الصحراء هي الفاصل الحقيق لا البحر. الجنرال أفيدرب تاجر العبيد وأحد أكبر النخاسين الذين حكموا المنطقة يريد لنا أن نظلّ بعيدين عن التاريخ والجغرافيا وأن تظل الصحراء فاصلا لا واصلا.

على العكس كانت هذه الصحراء دائما، كما لاحظ ذلك عن جدارة ابن خلدون، هي المهد المتجدد للدول المغربية أو المغاربية. في هذه الصحراء الكبرى تأسست دولة بني مدرار ومن هذه الصحراء خرج المرابطون، ومنها خرج الموحدون والوطاسيون والمرينيون والسعديون والزيانيون والعلويون إلخ.

هل نترك كل هذا التاريخ العظيم ونكتفي بقطعة عقارية رسمها ضابط فرنسي شبه أميّ في تاريخنا ونحن آخر همّه؟

هل نتنازل عن كل تاريخنا العظيم لنبقى أوفياء لدفاتر الجنرال غورو وبرقيات جاك فوكار؟ هل نقف مع تركة فوكار وميشيل دبري وقبلهما أفيدرب وكبلاني واليوتي وغورو أو مع تركة أبي بكر بن عامر وعبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين والشيخ ماء العينين وسيدي بن مولاي الزين وسيد أحمد ابن أحمد عيده وبكار بن اسويد أحمد ومحمد بن سيد أحمد، وسيدي محمد بن الشيخ سيديا والشيخ بن عبدوكه وأحمد بن الديد ومحمود بن اعميره والشريف حماه الله إلى آخر رموز القائمة الملحمية المجيدة.

هل نضحي بكل هذا التاريخ العظيم ونقبل أن نكون نقطة تفتيش حدودية للأوروبيين، أن نكون بوابا أو شرطيّا بيد الأوربيين يطاردون بهِ أشقاءنا من أفارقة جنوب الصّحراء؟ ماذا ارتكب أشقاؤنا من جنوب الصّحراء حتى يستحقوا علينا أن نقبل بهذا الدور: دور الشرطيّ والحارس؟ أنقبل أن نكون معسكرا أو سجن انتظار يمنعهم من العبور إلى أوروبا؟

 

-10-

إنّ الصحراويين أو "البيظان" عليهم أن يدركوا أنّ مسلسل التفكك لانهاية له، وأن قبولهم بالانفكاك عن فضائهم وحرصهم على الوفاء لحدود الاستعمار التي تريد أن تسجنهم في ركن قصيّ من فضائهم الطبيعي منفصلين عن فضائهم المغربي أو المغاربيّ قد أدخلهم في مسلسل تفكّك كانت إحدى مراحله الخطيرة لحظة انقسام الصحراويين بين من يريدون موريتانيا كبيرة كما قال يوما الولي مصطفى السيد، موريتانيا من سينلوي إلى غاو إلى وادي نون إلى بشار وتوات، بل ونُقل عنه أن انتقاده للمختار ولد داداه ليس ي كون الأخير "يريد للبيظان دولة ولكن لكونه يرضى لهم دولة صغيرة لا تضمّ كلّ أراضيهم التاريخية"، وفي رواية أخر بأنه، أي مصطفى السيد، يريد "جمهورية صحراوية تضمّ كل العالم العربي" وبين الذين يريدون صحراويين أو بيظانا في موريتانيا في حدودها الفرنسية وبيظانا في الساقية الحمراء ووادي الذهب في حدودها الإسبانية وبيظانا في جنوب الجزائر في حدودها الفرنسية وهكذا، والنتيجة أنّ الفضاء الصحراويّ نفسه تفّكك وتقطعت أوصال أهله وبقيت مئات آلاف العوائل منفصلة عن بعضها منذ بداية السبعينات، بعضها في جنوب الجزائر وفي المخيمات الجبهوية بتيندوف وبعضها في جنوب المغرب وبعضها في موريتانيا والبعض الآخر في أزواد وفي الشتات، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

دخلنا في عبثية لا حدود لها، أفراد نفس العائلة لا يحملون نفس الأوراق، كلٌّ حسب الصدفة والمصادفة ومسار المأساة، من يحمل أوراق هذا البلد ومن يحمل أوراق البلد الذي أصبح "آخر". والمسكينة التي لا تستطيع أن تزور أحيانا شقيقتها لأنها لا تمتلك ثمن تذكرة الطائرة أو عمولات المهربين، أو الأوراق الثبوتية المطلوبة، أو الأذون والتراخيص المختلفة.

ثم دارت عجلة التفكّك فأصبح البيظان أو الصحراوين شريحتين: بيضا وحراطين، ثم أصبحوا شرائح بيضان وحراطين وامعلمين وإيكاون وزوايا وحسان وأزناكه وحمر وبيض وسود وخضر وألوان الطيف الأخرى، وحبل التفكك على الغارب، وأصبح هناك بيظان موريتانيا وبيظان المغرب وبيظان الجزائر وبيظان المخيّمات وبيظان الصحراء والساحل وبيظان إسبانيا وأمريكا وبيظان أو شناقيط الخليج والمشرق وربما بيظان الهند والسند، أصبحت التقسيمات الوظيفية العتيقة بين الزوايا وحسان والحراطين ومعلمين إلخ تُستعاد في القرن الواحد والعشرين لتشكيل هويات جديدة.

ولكن السؤال الوجوديّ واحدٌ يطرحه الجميع على نفسه بطريقة أو بأخرى، يطرحه الصحراويون علنا على أنفسهم في نواكشوط وفي النعمة وفي أطار وفي الداخلة وفي عيون السّاقية وفي كلميم وفي مراكش وفي تيندوف وفي بشار وفي الأغواط، إلخ، يطرحون على أنفسهم نفس الأسئلة الوجودية: إلى أيّ هاوية نسقط وفي أي قاع نتدحرج وهل هناك أمل في أن نتدارك أنفسنا وأن نقطع مع سياسة النعامة، أن نمسك مصيرنا بأنفسنا ولو في هذا الوقت بدل الضّائع؟

- يتبع- 

 

مواد ذات صلة:

هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (5 و6 و7 من 17)

هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (3 من 17)

هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (1 من 17)

هذا بيان لسكان هذه الصحراء/ المختار السّـالم (2 من 17)