
د. محمدُّ أحظانا
(الحلقة الثانية):
-كيف نقف في وجه التيار الجارف؟
عندما يجد المجتمع نفسه في ضائقة كبرى فإن عليه أن يراجع نفسه ويتحلى بأربع خصال إجرائية لاستيعاب تلك الضائقة وتجاوزها:
١-التماسك النفسي: شجاعة، وردة فعل أولية؛
٢- تشخيص الحالة العامة للتحدي، وانعكاسها على الذات، والواقع؛ من أهلية، وقدرات، ووعي بالمصالح العليا؛
٣- تقدير الضرر والأثر الفوري، والمتوسط، والاستراتيجي.. على المجتمع أو الأمة المستهدفة أو الأطراف الفعلية؛
٤- طرح السؤال المنهجي المناسب لتحديد الخطوات العملية الملائمة. ويكون بصيغ مختلفة ومتدرجة. منها:
-كيف نخفف الآثار الفورية للضرر؟
-كيف نزيل آثار الضرر كلية؟
-وكيف نتفادى تكرار الحدث الضار مستقبلا؟
السؤال الأول حول امتصاص الصدمة؛ والثاني لعلاج آثارها وتجاوزها؛ والثالث للحماية من تكرارها مستقبلا.
ويمكن -تطبيقيا في موضوعنا- أن نجمع الأسئلة الثلاثة في سؤال واحد، وهو:
-كيف نقف في وجه تيار الهجرة العشوائية الجارف؟
أولا: امتصاص صدمة الهجرة العشوائية
عندما تكون لدينا أزمة فعلينا أن نفككها إلى مجموعة المشاكل التي تتألف منها، تمهيدا لحلها..
والهجرة العشوائية أزمة مركبة: عالميا، وإقليميا، ووطنيا.
-عالميا: لأن كل بلدان العالم تعاني من أزمة الهجرة، باعتبارها عبْءً على البنيات التحتية والتوازنات السكانية، والألفة الحضارية، في بلاد الوجهة.
-وإقليميا: باعتبارها عبءً ماديا اقتصاديا، وأمنيا، واجتماعيا وسياسيا.. على بلاد العبور، والانكسار.
-ووطنيا: باعتبارها نزيفا قاتلا لبلدان المصدر بسبب هجرة الفئات العمرية النشطة، وكذلك إخلالا بالتوازن الاجتماعي، وتفكيكا للارتباط الوطني ببلاد المصدر، والتمرد على الانتماء الإيجابي إليها.
كل مشكلة من هذه المشاكل وحدها، كافية لاعتبار ظاهرة الهجرة أزمة، أحرى إذا كانت معا.
ولأنها كذلك فحلها ليس ممكنا إلا بتعاون دولي مخلص، سنمر عليه خلال هذه المعالجة، في كل من آثارها الفورية والمتوسطة والاستراتيجية.
ثانيا: التسوية المقترحة
-الطرف الأول في العلاج:
دول الوجهة؛ تشخيص وحل
يقول العالم الفيزيائي انيوتن: "لكل فعل ردة فعل مكافئة له في القوة ومعاكسة له في الاتجاه."
ومن العجيب أن هذا القانون الفيزيائي يصدق على موضوع الهجرة مع تباعد الحقول.
كيف ذلك؟
الفعل: صدمة الغرب للجنوب بالاستعمار ومضاعفاته المتولدة.
وجهة الفعل: من الشمال والغرب إلى الجنوب.
النتيجة: انهيار بلدان الجنوب وتفقيرها وتكريس تخلفها، وإشباعها بالنماذج والخطط التنموية الزائفة الكيدية العقيم..
ردة الفعل: الهجرة العشوائية.
وجهة ردة الفعل:من الجنوب إلى الشمال والغرب.
النتائج: الإزعاج، والإحراج، والتنقيص، والمنافسة في العمالة ولقمة العيش، ومؤشرات الإغراق البشري.
مقترحات على طريق الحل
لكي يتم امتصاص صدمة الهجرة من لدن دول الوجهة، أولا؛ ومعالجة آثارها، ثانيا؛ والوقاية من تكرارها، ثالثا؛
أرى في هذا المجال: أن على دول الوجهة (أوروبا والغرب):
أن تفهم -من باب التشخيص- أنها هدمت وأحرقت البيوت على ساكنيها في الجنوب بشكل متكرر، مع سبق الإصرار والترصد، وعليها أن تتحمل المسؤولية بشجاعة أدبية، وتجبر الضرر، وتدفع ثمنا لذلك في خمسة إجراءات: فورية؛ ومتوسطة؛ واستراتيجية.
-الإجراء الأول:
إجراء فوري استعجالي. وهو ضخ أموال في بلدان المصدر والعبور بسخاء، تمول بها مشاريع فورية مدرة للدخل. وتوحي بالتخلي عن سياسة الشح الشديد ومراباة الديون. مع ضرورة تقدير الأوروبيين لحقيقة، أن الاستثمار في رخائهم يستدعي تثبيت سكان الجنوب في بلدانهم.
الإجراء الثاني:
وهو إجراء استعجالي فوري كذلك، إعفاء كل ديون الشمال على دول الجنوب، والكف عن استنزاف خدمة تلك الديون لميزانيات دول الجنوب بشكل قاتل.
الإجراء الثالث:
وهو على المستوى المتوسط:
التوقف عن استنزاف خيرات بلدان الجنوب عبر شركات متغولة، تجعل استغلال المواد الأولية في بلدان الجنوب بلا جدوى على شعوبها، لأنها تتم عبر عقود غبن مجحفة تتراوح ما بين 3% و 20%،
لتستأثر شركات الاستغلال بما بين 97% و 80% من كتلة الاستغلال.
فكيف يتصور أحد أو يرضى بما لايتجاوز في الأكثر 20% من ثروته الوطنية في أحسن الأحوال؟!
الإجراء الرابع:
إجراء تتقاطع فيه الفورية والمتوسطية والاستراتيجية؛ وهو:
الكف عن التدخل العسكري المباشر وغير المباشر.. في بلدان الجنوب، وتخريب لحمتها الاجتماغية بتأجيج النزاعات العرقية والفئوية، وانتهاج السياسيات العنيفة تجاه أي سلطة مخالفة، والهيمنة التجارية، والغمر بالسلاح، وتنظيم الجريمة العابرة وتأطيرها، من إرهاب، ومخدرات، وتربية عنادية للأجيال عبر وسائط تنظيمية محمية في كل الأحوال.. كل ذلك لتحقيق إذعان من النخب السياسية، وتبعية مبتذلة لجهة غربية.
الإجراء الخامس
وهو إجراء استراتيجي:
التخلي عن معاملة الجنوب باعتباره عالما غير رشيد، وتكريس تخلفه أبديا بكل الوسائل، ودونيته قدريا... ولا شيء من هذا صحيح لةنه مفروض وقسري التبني.
والحقيقة أن استغلال الغزب لذكائه وتقنيته من أجل قهر شعوب الجنوب ماديا ومعنويا، وتنضيب ثقتهم في أنفسهم، والتنقيص من أهليتهم العقلية والتنظيمية والأخلاقية أبديا.. هي التي أدت إلى تخلف مجتمعات الجنوب، وتعقد الحلول الناجعة لأزماته المستحكمة.
عند التخلي عن هذه المسلمات من طرف الكتحكمين الغربيين، ومعاملة الجنوب على نحو محترم: تعاونا، وتبادلا، عالميا وإقليميا وثنائيا، فإن الغرب يهيئ أرضية مناسبة، وبئة صالحة للتعايش، وإشاعة الرفاه البشري. وبدون ذلك لن يتحقق أي شيء.
ولعل مراجعة نظريتي مالتوس في الندرة، ونظرية داروين في الانتقاء الطبيعي، اللتين هما الخلفية الثنائية للتنظير السياسي الغربي العميق؛ باعتبارهما أيديولوجيا تنافسية إقصائية عنيفة؛ وتبديلهما بأيديولوجية تشاركية.. ستقود إلى حالة من قبول الآخر وفهمه، والاطمئنان إليه وإفساح مكان له في خارطة الوجود الكريم؛ ومن ثم تحقيق الرخاء والاستقرار والتعايش السلمي الكوني.
إن ثمة حقيقة مريعة وراء كل بؤس وشقاء عالمي، بما في ذلك كارثة الهجرة؛ وهي أن ثروات العالم تفيض على حاجات البشر، ولكن سوء توزيعها هو السبب في الاختلال الحالي.
مثلا، حسب آخر إحصائيات توزع الثروات على الكرة الأرضية:
أن الكتلة المالية والاقتصادية العالمية موزعة على النحو التالي:
85% من ثروات العالم بحوزة 13% من سكانه.
و 80% من ال 85% من ثروات الكون بأيدي 3% من أصل 13% المذكورة.
إن على العالم الغني وعلى مترفيه أن يفهموا بشكل واضح أن الشعوب ستتقفى أثار ثرواتها اليوم أوغدا أو بعد غد.
لذلك عليهم أن يغيروا عقيدة تفقير عالم الجنوب، وإغناء أنفسهم؛ وإلا فسيتم غزو الغرب بشريا، و تمتلئ شواطئه بالجثث، أو تتم مشاركة ساكنيه في أوطانهم قسرا، ومن شعوب الجنوب الطريدة من أوطانها، بسبب فعل مباشر أو متولد من أفعال هذا الغرب.
كما أن على هذا الغرب أن يقتنع بأن بواعث الهجرة إليه لم تكن إلا منه، وليس بسبب شعوب الجنوب أصلا، لأنه لا أحد يرغب فطريا في هجران وطنه إن وجد فيه الرفاه، ولا أدل على ذلك من أن كل من حصل لقة في الغرب لا يستمرئها إلا إذ أكلها في الجنوب.
لكن نتيجة السياسات المالية والاقتصادية الجشعة، المتوحشة، المؤطرة تقنيا وبحثيا، وتطبيقيا.. فقد رغب إنسان الجنوب عن وطنه للضرورة الماسة لا كرها لوطنه.
وعليه، فعلاج ظاهرة الهجرة لايكون إلا من منشئها، وعلى من أشعل النار أن يطفئها وإلا أحرقته لأن المحرقين يلجؤون إليه لإطفاء نيران الجوع والحرمان.
إن تدارك الخطأ الاستراتيجي الشنيع استعجالية، وممكنة، ليس بالنسبة لعالم الجنوب وحده وإنما بالنسبة لعالم الغرب كذلك.
أما غير ذلك فلا أصدق فيه العالم الفيزيائي العبقري إينشتاين حول السببية، وهوما: أن "من الغباء إعادة نفس التجربة بشروطها، للحصول على نتائج مختلفة".
السياسة الأوروبية الغربية الحالية بجميع تجلياتها لن تقود إلا إلى نفس النتائج التي قادت إليها سابقا.. لا ينفع في ذلك تنفيس باتفاقية هشة إكراهية هنا أو هناك. أو إجراءات تسكينية تكتيكية، أو برامج انتخابية متطرفة، أو التنافس في انتخاب القادة الأكثر سوءا.
إن الأمر أجل من كل ذلك..
وبدون معالجته لن يرى الغربيون السكينة "إلا من حفر أصداغهم"؛ كما يقال.
والأيام بيننا.
(معالجة متواصلة.)