
لا شيء يؤذي المزاج أكثر من شعورك أنّ الزّمن يتملّص من أمام نظراتك دون أن تقبض على لحظة تقرّب ما تناءى عنك منه، لا شيء ينهك ذاكرة الوجدان عدا استحضار الافتراضات الّتي كان يجب أن تعيش لتكون حلما قابلا للمشاهدة مرّات ومرّات، ولا شيء يسعف القلوب المتحطّمة إزاء تسارع نبضها غير الأحضان الّتي لا تقبل المشاركة.
حلمت طويلا وطويلا أن لا أبرح حلقة واحدة من عمري المتعب بالمطاردات، وودت لو باغتني نوم طويل أمسح أثناءه ما علق بالذّهن من كوابيس تعزّ على البتر، فما زلت طفلا وديع الدّواخل، أخاف أن تقربني امرأة وتطلب منّي وضع منديلها بيديّ، وأرتعب من أن يزورني ليل ملطّخ بالزّغاريد والرّوائح وحشود الدّخان العابثة بالفرح.
تعبت كثيرا كي لا أفرّط في طفولتي التي بدأت أسقطها قطعا قطعا وكلّي اكتراث لما تساقط منّي؛ أشجار المشاكسة الحمراء، غمامات الصّراخ الكثيفة، عواصف الرّكض المتتالية، جدران الوهم المحاطة بحرس التّسليم، رغبات المحرومين الشّاردة بدون سبب، وصايا الأقربين الماكثة إلى قدر معلوم.
نقصت وقد تكاثرت بحجم تجاعيدي، لم تعد شفتاي متّسعتين للأناشيد المبلّلة بالحماس، ولا أذناي رحيبتين للإصغاء المتبتّل، ولا يداي طروبتين للتّصفيق الحلو، لقد بتّ قفرا خرابا تجوبني عواءات الأصداء ومواويل بوم المارّين على ديم ذكرياتي المتناثرة.
أحاول - وتلك عادتي - أن أدرك حقيقة ما أعيش ويعيشني فأخلع مداركي وأذروها رمادا عاريا من أيّ أثر يدلّ على حرب مفتوحة الخطوط لا منتصر فيها إلّا الجحيم.
ها أنا ذا أقضم الزّمن عقربا عقربا وساعتي لا تخلع من ثوانيها إلّا الّتي أسرفت في القبص عليها عارية من مخاوفي، فهل يهبني هذا الجرح عبر نزيفه لنومي المؤبّد الّذي أشتهي؟.