
عطفاً على حديث صَباحي سابق حول قافية نُونية بسيطية جميلة نسج على منوالها عدة شعراء في مختلف العصور، أوْعَزت إلى الخواطر الصباحية اليوم بالكلام عن قافية نونية بسيطية أخرى تمُت إلى الأولى بقرابةٍ وتضاهيها في أجراسها وأوتارها ...
يرجع بداية عهدي بقافيتنا هذه إلى منتصف ثمانينات القرن الميلادي، وبالتحديد إلى قطعة من شعر لمرابط امحمدْ بن أحمد يورَ معدودةٍ فيما قالَه أثناء زياراته المُتكررة لِجنوب النهر ولِمدينة "انْدَرْ" على وجه الخصوص، وتعطي هذه القطعة ملمحاً خاطِفاً عن الحياة المُترفة التي كان يعيشها بعض الأوساط المُنبَثقة عن تواشُج الفرنسيين مع السكان المحليين لتلك المدينة :
يا شُربةً أطْفأتْ في القلب نيرانَا
مِن دارِ "لَكْـتِيرِ" أو مِن دارِ "سامانَا"
كأنما جمعَت مِن طيب نسمتها
مع اللذاذة رُمَّانًا وريحانا
مَنَّ الزمان وما خلتُ الزمان بها
ومثلِها من أماني النفسِ منَّانَا
في غرفةٍ من بناتِ الجوِّ تحسبها
بُنيانَ فرعونَ في أيامِ هامانا
استحضرَ الشيخ حمدَن قطعةَ امحمدْ هذه وأخرى لابن الرومي في إحدَى صوتياته الرقيقة الذائعة في الفنانة الشهيرة"النعْمَ بنت اشوَيخْ" :
يا "نِعْمَ" عُودُكِ أفْنانا و أحْيانا
في حفلةٍ جمعَتْ رقصاً و ألحانا
في ليلةٍ من ليال الفَنِّ فتيتُها
كأنما شربوا من خَمْرِ بَيْسَانا
"في غرفة من بنات الجو تحسبها
بنيان فرعون في أيام هامانا"
ما زال صوتك يمحونا ويكتبنا
حتى بقِينا -وعين الله ترعانا-
تَخالُ أمْرَدنا نَشوانَ من طَربٍ
و الشيخَ مِن هزِّهِ عِطفَيه نَشوانا
مِن هذه القافية، تعرفت كذلك مُبكراً على قطعة أخرى للمرابط امحمد تتضمن ذكر بعض شخصيات مدينة "انْدَرْ" حيث كان يتردد على بيوتات مختلفة المشارب :
لولا الإلهُ لَمَا قَلّلْتُ إتيــــانَا
بَـيْتِ " الشريفِ" وبيتِ الخَوْدِ " دَيـَّـانَا"
فبيتُ ذا بظريفِ الشعْرِ أضْحَكنا
وبيتُ ذِي بثقِيلِ الشوقِ أبْكـَــانَا
ومِن حولِي، فتحت عيني كذلك مُبكراً على قصيدة للوالدِ في حاضرة "أغَوْرَسْ" قريةِ أهلِنا الكرام : "أهل بُو فْلان"، يقول في مُستهلها :
"أَغَوْرَسُ" اسْمَعْ تَحِياتِي لكَ الآنا
والقلبُ ما زال بالأشواقِ ملآنا
أهْدِي إليكَ تَحِيَّاتِي مُزففةً
تفوق في الحسن ياقوتاً وَمرجانا
مَن كان ظمآن مِن شوق إلى بلدٍ
فمِن هواك أنا مازلتُ ظمآنا
واللهِ لو نبَتَ القُرآنُ فِي بلَدٍ
لَبانَ مِن فوقِكَ القُرآنُ أغصانَا
ومنها تعرفت لاحقاً في الثانوية على نص جميل لعميد الأدب الفصيح ببلادنا الأستاذ/ أحمدُّو بن عبد القادر، كان يبعث في التلاميذ حينَها روحَ الوجدانِ القومي ونفَسَ الأملِ الوحدوي الذي خلقه اتحاد المغرب العربي نهاية الثمانينات :
وادي الأحبة هلاّ كنت مَرْعَانَا؟
إن الحبيبَ حبيبٌ حيثُما كَانَا
ويا أخا البُعد هل تشفيك قافية
تبوح بالنفس أنفاسا وأشجانا؟
أفٍّ على الشعر والدنيا بأجمعها
ما لم تقرب إلى الإخوان إخوانا
هوِّن عليك فذاك الشمل مجتمع
والنجع لاقى على التحنان خلانا
إن الحمائم قد عادت مغردة
فوق الغصون وعاد البانُ نشوانا
أما رأيت طيور البحر حائمة
في أفقنا ترسم الأفراح ألوانا؟
وشائج الأرض أقوى في نوازعنا
والحُرُّ ينسَى طِباع الحُرِّ أحْيانا
ومِن بديعيات وجناسيات الشاعر الفذ "ابُّوهْ بن أشيادْ" اليدوكي، سمعتهم ينشدون كثيراً ويستحسنون غايةً قولَه في أبيات :
يا خلةً خِلتُها دُرًّا ومَرجانا
لا تقطعي مِن زمان الوصل مرجانا
غراءُ ما إن رأى أسنانها ورِعٌ
إلا وبات مع الشيطان وَسنانا
كانت "بِبَلْشَانَ" قبل النأيِ فارتحلتْ
عنها وما زان ذا "بَلْشانَ" بَلْ شَانَا
ومِن أول ما تعرفت عليه مِن نصوص حماسة أبي تمام -وأظنه أول نصوصها- قطعة للشاعر قريط بن أنيف العنبري التميمي يكثر التضمين منها وتتكرر الإحالة إليها، وقد كنت بعد ذلك أستمتع بسماعها بإنشاد الشاعر محمد الحافظ بن أحمدو من خلال برنامجه الإذاعي المعروف والذي أرى أن حلقاته تراث وطني بل عربي وعالمي ينبغي أن يحظى بلفتة تنتشله من براثن الضياع والنسيان ...
لو كنتُ مِن مَازِنٍ لم تَسْتَبِحْ إِبِلِي
بنو الَّلقِيطَةِ مِن ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَا
إذن لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ
عندَ الحَفِيظةِ إِنْ ذو لُوثَةٍ لانَا
قومٌ إذا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ
قاموا إليه زَرَافَاتٍ وَوِحْدَانَا
لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُمْ
في النَّائِبَاتِ على ما قال بُرْهَانَا
لكنَّ قومِي وإِنْ كانوا ذَوِي حسب
ليسوا مِن الشَّرِّ في شيءٍ وإِنْ هَانَا
يَجْزُونَ مِن ظُلْمِ أَهْلِ الظَّلْمِ مَغْفِرَةً
ومِن إِساءَةِ أَهْلِ السَّوءِ إِحْسَانَا
كأَنَّ رَبَّك لم يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ
سواهمُ مِن جميعِ الناسِ إِنسانَا
فليت لي بهم قومًا إذا رَكِبُوا
شَدُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا ورُكْبَانَا
هذا ما رشح به، هذا الصباح، إناءُ تلك القافية الزاخرُ بنصوص أخرى تدور حول تلكَ وتجري على منوالِها ...
عزالدين بن ڭراي بن أحمد يورَ