دكار – نواكشوط: المختار السالم:
(عن مجلة “القوافي” بتصرف)
"دكار"، هذه المدينة الغافية على شاطئ الأطلسي، مدينة الشعر والثقافة والتاريخ، يمكنها أن تستحوذ على كثير من الألقابِ وأن تنفرد بها أيضا، مدينة لا تنقصها "البدايات" المؤسسة أساطير ووقائع فهي أقصى مدينة في غرب إفريقيا، وهي من أجمل المدن الإفريقيةِ وتلقب "بباريس الصغرى"، وإحدى أشهر مدن العالم، وهي الملتقى الروحيِّ لعشرات الطرق الدينية والزوايا الصوفية، وتحفل بالأماكن التراثيّة ومن معالمها "متحف الثقافة الإفريقيّة"، و"متحف العبوديّة"، و"نصب النهضة الإفريقيّة"، و"السوق الكبير"..
"دكار"، ومعناها "الملجأ الآمن" (""Dekk raw باللغة الولفية)، وفي هذا استبعاد لاسم الصدفة في حكاية "دخار" (شجرة التمر الهندي)، مدينة ببلدياتها 19 وسكانها 5 ملايين نسمة ومساحتها الممتدة 83 كيلو مترًا مربعاً، مدينة لا تتوقف عن الإنشادِ والغناءِ والرقصِ وعن سرديات الشعر ومواجهةِ الحياة بالحياةِ.. وهي المحطة الأم بمسيرة عباقرة السنغال الذين اختطوا طريقهم في الشعر والفن والعلوم والرياضةِ عبر العالم.
التأسيس.. من "جزيرة العبيد".. إلى أول شاعر رئيس للبلاد
تزعم بعض الحكاياتِ أنَّ أسرة من لقب "أفال" هي أول من سكنَ "دكار" واتخذتها موقعا للعيش من الصيدِ البحري وما تزال لحكايةِ التأسيس هذه أحفوريات في الذاكرة.
ولكن "دكار" ظلت قرية بمثابة شامة على "صخرة" تمتد داخل "بحر الظلمات" حتى القرن 16م، حيت اتخذ منها بحار عسكري فرنسي قاعدة للأبحار نحو أمريكا نظراً لموقعها كأقرب النقاط الإفريقية لأمريكا الجنوبية، وخاصة البرازيل المُحَادَّة لجزر فرنسا.
وستتحول "جزيرة غوريه"، التي تبعد من دكار خمس كيلومترات، إلى "قلعة أوروبية" اشتهرت بدورها كأحد أكبر مراكز تجارة العبيد وتصديرهم إلى أمريكا.. كانت "جوريه" منجم العبودية، الذي صدر ملايين العبيد المقيدين داخل البراميل والحاويات على "سفن الرقيق" في قصص تقشعر لها الأبدان، لتبقى جزيرة مسكونة بأنين الضحايا الذين مات نصفهم في أعالي البحار بسبب التعذيب والجوع والمرض.. مع أن المؤرخين يرون أنَّ "جوريه" صناعة رمزية سياحية، وكانت أقلَّ دورا في تجارة الرقيق من مدن الساحل الأخرى كـ"أندر".
وفي العام 1857م عرف دور "دكار" منعطفاً جديداً، عندما قرر القائد الاستعماري الفرنسي "فيديرب" اتخاذ "دكار" عاصمة لإقليم السنغال لتتحول إلى مركز إداري مهم، فيما ستبقى "أندر" (سينلويس) عاصمة لعموم أقاليم غرب إفريقيا الفرنسية، ومع بدء "الاستقلالات" ستبقى "أندر" عاصمة مشتركة لموريتانيا والسنغال حتى استقلال البلدين 1960م.
كان قرار "فيديرب" جعل "دكار" عاصمة لإقليم السنغال، عاملاً للابتعاد عن "صراعات الأوروبيين في سينلويس" وتلك حكاية معقدة.
1960 سيطل على السنغاليين من مدينة "دكار" أول رئيس للسنغال هو الشاعر الكبير ليوبولد سيدار سينغور (9 أكتوبر 1906 - 20 ديسمبر 2001)، والذي حكم (1960-1980) وتنازل طوعاً عن الرئاسة.
حرص سينغور، وهو المولود لأسرة صيادين قرب "دكار"، على نقل كل رمزية البلادِ إلى "دكار"، وهمَّش "أندر"، لأسباب اجتماعية وسياسية.
وهكذا عرفت دكار تحت رئاسة شاعر من طراز عالمي وعضو مجمع الخالدين (أعرق مجمع للغة الفرنسية)، وأحد أهم المفكرين الأفارقة في القرن العشرين، ثورة ثقافية وأدبية كبيرة، فقد تزامن حكم هذا الشاعر للبلاد مع صعود نجم جيل العباقرة مثل "أنتا جوب"، كاتب أشهر الملاحم الأدبية الإفريقية، ومختار أمبو، الأمين العام السابق لليونسكو، وبراغو جوب، ومصطفى واد.. وأسماء استثنائية في الشعر والثقافة.
كان سينغور، من أعظم الشعراء الأفارقة، أبرز منظري "حركة الزنوجة" إلى جانب إيميه سيزار، والشيخ أنتا جوب.. وآخرين، وهي الحركة التي تبنت المناهضة الشاملة للاستعمار وطرحت قضية "الحضارة الزنجية"، ولعلَّ الأب الروحي لهذه الحركة هو الشاعر الكبير "بيرام غي".
سيعرف الشعراء المؤسسون لـ"حركة الزنوجة" اتهامات بالحسدِ، بل وبالعمالة، لكن فيلسوف الحركة سينغور حوَّل "دكار" إلى عاصمة للشعر الإفريقي تحت ظّل قامتهِ الشعرية الكونية.
مع امتصاصها لأغلب مشاريع البنية التحتيةِ السنغالية، تحولت دكار سريعا إلى أجمل مدن البلاد بمينائها العالميّ على الأطلسي، ومطارها الدولي (مطار الشاعر سينغور)، وبمسارحها ونواديها، ووجهاتها السياحية، واحتضانها لثقافة جاليات نشطة من مختلف القارات والثقافاتِ، فضلا عن "قوة روحية" كبيرة تجاوز إشعاعها السنغال إلى دول المنطقة.
أنجبت "دكار" أجيالا ذهبية في الغناء والموسيقى والتشكيل والتمثيل، لكنها لم تُسَلم رايتها الرمزية إلا للشعراء. فالشعب السنغالي شاعر بالولادة والفطرةِ.. كيف لا وهو الشعب الوسيم الكريم الحنون، شعب المسجد والمحظرةِ والبحر والمنجلِ والماشيةِ، شعب حب "الآخر" الذي هو في "دكار" ضيف برتبة شقيق.
نقَل شعراء "دكار" القصيدَة السنغالية إلى العالمية وبأكثر من لغة، وجاهدوا كرافعة شامخة "للإفريقية" حضارةً وقيماً وسُلوكاً.. هؤلاء الشعراء كتبوا للإنسان والأرضِ والحرية.. بللوا أوردة الحق بأجمل الكلام، بالسحر الحلالِ المتهادي على النغمات، كانَ الشعر مفتاح قلب "دكار"، وقد سلَّمت أجيال التأسيس الراية لجيل أكثر وعيا وإصرارا على حجز مكانتهِ على الخرائط الشعرية العالمية.
"دكار" مدينة الشعر العربي
العربية والشعر العربي مكونان مركزيانِ في الهويةِ السنغالية، فالعربية أول لغة تأليف عرفها السنغاليون، وكتبوا بها لغاتهم قديما، ولا شك أنَّ الشعر العربي السنغالي مدين للرافد الشعري الشنقيطي، المحظريّ أساسا، قبلَ أن تصل تيارات التحديث من مصبّات.
حاليا تستحوذ "دكار" على نصيب الأسد من شعراء العربية بفعل مركزية المدينةِ وعالميتها، وتتعايش مدارس شعرية عربية عديدة في "دكار"، ومن أبرز الشعراء المؤسسين للشعر العربي السنغالي: القاضي مجخت كل (1835-1902م)، والشيخ أحمد بمبا خادم الرسول (1853-1927م)، والشيخ الحاج مالك، والشيخ إبراهيم جوب المشعري وذو النون لي، وغيرهم.
ويتقدم الجيل الحديث: أحمد جيي، وشيخ تجان غاي، ومحمد البشير جيي، ومحمد الأمين آج، وشيخ تجان سي.
بينما يحمل لواء الشعراء الشباب: عبد الأحد الكجوري، وبابا آمدو فال، ومحمد الأمين جوب، وانجوغو انينغ "السيوطي"، وعبد العزيز، وعلي با، وشيخ تجان امبوج. وغيرهم.
نادي السنغال الأدبي... قلعة القصيدة العربية
خلال السنواتِ الأخيرةِ، هيأت "دكار" من خلال "نادي السنغال الأدبي" مصبا كبيرا لروافد الشعر العربي السنغالي، من خلال نخبة من حملة القصيدِ، ربطت بأشعارها ودواوينها بين "دكار" وعواصم الشعر العربي في الرياض والقاهرة والشارقة.
يتولى إدارة هذا النادي الأستاذ فاضل كي، وهو من أنشط النخبة الثقافية السنغالية، ونذر نفسه لخدمة الإبداع والمبدعين.
يقول فاضل كي في تصريح لـ"القوافي": "تأسس نادي السنغال الأدبي عام 2016 ويضم في عضويته أكثر من 500 شاعر وأديب، وينجز عشرات الأنشطة سنويا لصالح الشعر والشعراء، ولديه خطة طموحة للرقي بالشعر ومساندة الشعراء في أداء رسالتهم عبر العالم".
ويشير إلى أنّ النادي يسعى لتسليط الضوء على التراث السنغالي المكتوب بالعربية ونشر الدواوين الشعرية المخطوطة منذ قرون.
ويعتبر أن المدرسة الشعرية في دكار امتداد للمدرسة الشعرية التاريخية التي كان روادها الأجداد والمشايخ".
شكلت مدينة "دكار" تيمة بوح للشعراء السنغاليين، فهذا الشاعر السنغالي "علي با" ينشد تحت عنوان "هنا دكار":
هنا دكار هنا للروح والجسدِ
ما يبحثانِ بلا مَنٍّ ولا كبَد
هنا ترى ما ترى باريسَ عاصمةً
مذمومةً كمحيَّا الجوعِ والحسد
هنا تحسُّ بحقٍّ أنَّنا بشرٌ
من آدمٍ ولنا دورٌ سوى الضمد
كل الذي يتمنَّى المرءُ رؤيته
فيها كما يتمنَّى جدَّ مجتهد
ما أنس لا أنسَ يوما زرتُها ومعي
من البداوةِ ما يكفي لكلِّ نَدِي
فرَحَّبَتْ بيَ حتى كلُّ ملتفتٍ
إليَّ يحسبني منْ سادة البلد
ما كنت أحسبها فيها ألذَّ غدَا
أمرَّ يوم أراني حُسْنَها عَضُدي
زرها تُلاقِ - متى ما شئت - أفئدةً
غيرَ المحبةِ لم تحمل ولم تلد
مدينة كل من يظفر بزورتها
يقول يا ليتها داري إلى الأبد
وبحرِها المتعالي أن يمرَّ به
ضيفٌ ولم ير منه ماحيَ الرَّجَد
شواطئٌ تتركُ السِّكِّيتَ أنطقَ منْ
قُسٍّ وأنشطَ من فَارٍّ من الأسد
فما تريد من الغزلانِ حاضرةٌ
حضورَ كلِّ دواعي البِشْر والرغدِ
هذا وأنغامها تنسيكَ ما نسجتْ
فيكَ الكآبةُ في قرب وفي بعُد
وتِي مساجدها الزهراءُ عامرةٌ
عمارة الروح إن يهتفنَ بالأحد
"إِيكَادُ" تعرف أني من أحبتها
لشيخِ أنْتَ وما أبقَى منَ الرشد
علامةٌ لست أدري كيف ضيَّعه
سينغور وهْوَ أديبٌ غير منتقَدِ
فيها عباقرة تعدادهمْ عبثٌ
لكنه فاقهمْ بالوعيِ والعُدد.
وهذا الشاعر محمد الأمين جوب ينشد:
هنا داكارُ لغزُ الكونِ لا أسْتحْسِنُ الوقْفَا
أحنُّ حنينَ درويشٍ إذا ما قابلَ الكَشْفَا
فَحامَ على رياض الله إذ يَتعلَّمُ الرَّشْفَا
أجولُ على شوراعِها فَمًا وَأُعَتِّقُ اللَّهْفَا
ويخاطبها في قصيدة أخرى:
مُذْ أَلْفِ عَامٍ أَنَا المَرْمِيُّ فِي القَلَقِ
زَادِي مَواويلُ صَبْرٍ تَرْتدِي أَرقِي
أَميلُ والقَلَمُ القِرْطَاسُ يَكْتُبُني
فِي هَامِشِ الكَوْنِ لَمْ أمْسكْ هُدَى الطُّرُقِ
يا ربِّ يا ربِّ لَمْ ألْفِ الجَوابَ هُنَا
قَالَ الغَرِيبُ: فَغِبْ فِي الأرْضِ واحْتَرِقِ
مَعِي مِنَ الذِّكْرِيَاتِ السُّمْرِ سُنبُلَةٌ
خَضْرَاءُ جِدًّا بغَيْرِ العِشْقِ لم تُطِقِ
يا أنتِ يا فِتْنتي الأُولى قد ائْتَزَرَتْ
لكِ الجَمَالُ الذي يهْوَاهُ كُلّ تَقِي
فِيكِ امْتدادُ دَمِي مُذْ أَلْفِ أجْوبَةٍ
قبل السُّؤَالِ وقَبل الصَّوْتِ في الحَلَقِ!!
يَا بِكْرَةً تَعْشَقُ الدُّنيَا ضَفائِرَهَا
قَدْ ذَاعَ صِيتُكِ فِي الأَصْقَاعِ كَالفَلَقِ
قُولُوا لداكار نفْسِي والنسيمُ فِدًى
لها مَتَى مَاجَ ضَوْءُ الشَّمْسِ للشَّفَقِ.
لا تعد نماذج الشعر التي تتغنى بدكار، وتستلمها تيمة للقصيدةِ، لكن يبقى من المهم جدا الاعتراف بأنَّ "دكار" لعبت دوراً مؤثرا في الشعر العربي في منطقة الساحل، وامتد تأثير ثقافتها العربية إلى شعراء دول الجوار: غامبيا، مالي، غينيا... بل إن "دكار" خلال القرن الماضي، ومن خلال "جالية الشوام"، وفرت الصحف والمجلات والمنشورات العربية، التي حملت روح التحديث في الشعر والنثر العربيين، وكانت "المنشورات التي تصل دكار" بمثابة الرافد المؤثر في الشعر الشنقيطي المعاصر مثلا.
تقول الناقدة الموريتانية د. النجاح محمذ فال "شكلت دكار يوما نهضة أدبية شعرية عربية فاح بها القلم مدرارا، وفيها التقى مؤرخ موريتانيا العلامة المختار ولد حامد بالأديب اللبناني يوسف مقلد مؤلف كتاب شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون، الذي أطلق فيه على موريتانيا لقب "بلد المليون شاعر"، ويعد من أوائل الإصدارات التي تعرف بموريتانيا".
وتضيف على أرصفة دكار ترنم الشعر العربي (الشنقيطي) مع جيل محمد ولد أبنو، وفاضل أمين، وناجي محمد الإمام، الذين كتبوا روائعهم من دكار أو عنها".
يقول ناجي الإمام في قصيدته "عذراء دكار":
لله كم فيـــــــك من عذراء يا دكــــرُ
فتـــــانةِ اللحظ لا تبقي ولا تذر
يا شاعر الحسن هذا الحسنُ أجمعه
من طود لبنان فيه القد والحور
ما أنسي لا أنس لُقيانا على عجلٍ
في قلب داكار حيث الوردُ والزهرُ
قالت وقد دُهشتْ أني أُخالسها
فحصاً: ألا أيها الإنسانُ ما الخبرُ
فقلتُ عاشق حُسن بلْه عابـــــده
لولاك ما شردت عينٌ ولا أثــــــرُ
قالت أتدري الهوى مرٌ مذاقتــــــه
فإنه جنة من دونها سقـــــــــرُ
قلتُ الفتي معشر العشاق دولته
صحوٌ إذا ما صحوا، سكرٌ إذا سكروا
قالت أللضاد منسوبٌ؟ فقلتُ: بلـــي
عراقةُ الضاد في أهلي مفتخـــُر.
وقبله، أشاد شاعر موريتانيا التاريخي محمد ولد أبنو بمضيفه المقيم بضواحي دكار مطلع القرن العشرين يقول:
أكَامِلُ أنتَ المُستَلَذُّ الخَلاَئِقِ
وأنتَ الفَتَى المَرضِىُّ بَينَ الخَلاَئِقِ
وأنتَ الذي جُرِّبتَ في كُلِّ مَشهَدٍ
فَألفِيتَ مِفتَاحاً لِقُفلِ المَضَائِقِ
وأنتَ الذي أولاَك مَولاَكَ نِعمَةً
فَفَرَّقتَهَا في النَّاسِ مِثلَ المفَارِقِ
تُوَالِي لِمَن والاَكَ أبهَى بَشَاشَةٍ
وتُولِي لِمَن وَلاَّكَ أسنَى العَلاَئِقِ
وتَبسُطُ لِلزُّوَارِ كُلَّ أرِيكَةٍ
مُنَمَّقَةٍ مَحفُوفَةٍ بالنَّمَارِقِ
فَلاَ تَحسَبَنَّ الكَعكَ كُلَّ مُدَوَّرٍ
ولاَ كُلَّ طِرفٍ لاَحِقاً شَاوَ لاَحِقِ
أتَحسَبُ لِي في الشِّعرِ شِبهاً ألَم تَكُن
نَظَرتَ إِلَى مَروِيِّهِ فِي المَهَارِقِ.