إعلانات

الرشيد.. واحة الحب والحرب

خميس, 07/12/2017 - 23:23
واحة الرشيد الموريتانية

 الرشيد (موريتانيا)- من الشيخ بكاي- (أرشيف) :

تغرق في الزمن الماضي وانت تستمع الى سكان واحة الرشيد الموريتانية، الواقعة بين فكّي مرتفع صخري، يتخذ شكل سلسلة جبال بنيّة “تتسربل” الكثبان الرملية البيضاء، و”تتعممها”. وتذوب في الطبيعة وانت تزور البلدة المعزولة، وتتصفح دواوين شعرها، وتترك لعينك المقارنة…

تطلّ على الواحة من على جبل “مري” البني المنتصب في كبرياء، كأنك امام لوحة رائعة تمتزج فيها الوان النخيل والبساتين الخضراء بالصخر، ولون البطحاء الناصع البياض. وعلى امتداد النظر تتراءى بطحاء “تلمدين” التي خلدها الشعراء وهي تتهادى في دلال لتنصب في المجرى الرئيسي لوادي الرشيد، مشكلة مع الوادي مثلثا ساقاه شريطان من الرمل الابيض، وقاعدته الصخر، ومداه “جنات النخيل”.

وانت على “مري” تحمل اليك نسمة شرقية عبقاً خاص النكهة من جبل “الشنينيفة” الاشيب الواقف على حافة الوادي شاهداً ابدياً على ثلاثي “الحرب” و”الحب” و”الطرب” الذي يلخص بعض الجوانب المهمة في تاريخ البلدة.

واحة الحب والحرب..:

لا يعطيك مرافقك “العاشق” وقتاً للراحة فهو يريد منك ان “ترى على الطبيعة” ما قرأت، وما قال هو مراراً لك.
وتنظر – وهو يعلّق – الى مرتفع “الغوط” حيث المدينة القديمة، فتقرأ تاريخ الرشيد… “تصافحه”… تسمع الاذان وتلاوة القرآن، وأذكار المتصوفة. تسمع صهيل الخيول، ووقع حوافرها… وصليل السيوف. تشتم رائحة الدم والبارود، والبخور، ودخان ورق الكتب تلتهمه النيران. ويتناهى الى سمعك قرع الطبول، وانغام الاوتار ممتزجة بأصوات المطربين والشعراء في مجالس الطرب. وتستقيظ من سرحتك على المرافق سيد المختار وهو يقول: “يبدو ان المناظر استهوتك… لكن حان النزول فالشمس اوشكت على المغيب”…

تنظر الى الهاوية تحت قدميك فتتساءل كيف تسنى لك الصعود؟ وكيف سيكون النزول؟.. تسدد نظرة الى القرية الحديثة ببيوتها المطلية بالطين، تتدحرج من رأس مرتفع صخري الى سهل على حافة مجرى الماء في الوادي، والى شوارعها التي تبدو كخطوط بيضاء في كفّ بدوية جميلة خضّبته الحناء.

عرفت الرشيد في العهود السحيقة حضارات بربرية وزنجية تدلّ عليها بعض الحفريات، لكن الباحثين الموريتانيين والفرنسيين الذين كتبوا عن المنطقة لم يولوها اهتماماً يذكر. ويردد السكان المحليون روايات عن وجود مدينتين اسم احداهما “تاس” والاخرى “ترتلاس” تقاتلتا على النفوذ حتى أبادت الواحدة منهما الاخرى.

ويعود التاريخ المعروف للمدينة الى نحو ثلاثة قرون حين شادها اجداد سكانها الحاليين، وتحولت الى مركز تجاري مهم يقع على طريق القوافل المتجهة من بلاد السودان الى الاطلسي والمغرب والعكس. واستطاع مؤسس المدينة سيد احمد ولد سيد الأمين المعروف بـ “امينوه” الذي أتى بالنخيل وزارعيه وعمال البناء من مدينة “شنقيط” الموريتانية التاريخية ان يحول الرشيد من مجرد ممر للقوافل الى مخزن للحبوب والملح، ما جعل البلدة نقطة تموين وسوقاً للمناطق الموريتانية الاخرى.

لم تكن المدينة تنتج الا التمور والقمح والشعير والحناء الا ان سيد احمد (امينوه) كان يسيّر القوافل الى الشمال لشراء الملح بكميات كبيرة ليباع بعضه في سوق البلدة ويصدر البعض مع منتجات محلية الى بلاد السودان التي يؤتى منها بالقماش والعسل والفول السوداني وحبوب ومنتجات اخرى مهمة لاسواق بلاد شنقيط (موريتانيا الآن).

وشهدت المدينة ازدهاراً ثقافياً بفضل استقرار السكان الذين كانوا يتنقلون خلف مواشيهم ويحملون معهم مدارسهم تحت الخيام ويتلقون الدروس في مساجد هي عبارة عن حظائر يقيمونها بين مضارب القبيلة ويرحلون عنها حين يقل الكلأ ليستبدلوها بأخرى، ما جعل الكثيرين منقطعين للدراسة بعيداً عن المضارب في اماكن مستقرة لتعميق تعليمهم. واستورد فقهاء الرشيد الكثير من الكتب من المناطق الموريتانية الاخرى والبلاد المجاورة والحجاز ومصر مستفيدين من اسفار الحجاج.

قال سيد المختار ونحن عند قدم الجبل: “هذه الواحة سجل حافل بالحرب والحب، ورغد العيش، والبؤس”. ويسترسل:

“قبل الاحتلال الفرنسي لم تكن هناك سلطة مركزية، وكانت كل قبيلة تمارس سلطتها الخاصة، او تخضع لقوى اخرى تحميها. وهذا ما جعل الحرب الخيار الاكثر تكراراً”.

وتقول الروايات الشفهية ان نخيل الرشيد اجتث من جذوره مرتين على ايدي تحالفات قبلية معادية واعيد غرسه او عاد من تلقاء نفسه كما يحلو لبعضهم ان يقول.

ويتحدث عجائز عن عمليات تدمير النخيل بانفعال كبير، ويحيطون رواياته بجو مأسوي حزين. ويتحدث العجائز عن “ايام العرب” بين اهل الرشيد وحلفائهم من جهة، والتحالفات المضادة لهم من جهة اخرى، معترفين بما لحق بهم من هزائم، وما الحقوه بعدوهم.

ويتوقف الرواة لدى زعيمين هما الحامد ولد امينوه وابنه محمد المختار. ومع الاعتراف للحامد بفضل العلم وباستقرار الرشيد في عهده، الا ان “فترة رئاسته للقبيلة كانت اهانة لها” كما قال احدهم لـ “الوسط”. فقد “تقاعس عن الحرب وقَبِلَ دفع ضريبة لسنوات للعدو مقابل وقفها”.

ويضيف: “لهذا السبب هاجر ابنه محمد المختار وأقسم ألا يعود قبل موته”.

تقع الرشيد القديمة على مرتفع جبلي وعر يتخذ شكل منحدر. وتشترك المدينة مع المدن القديمة الاخرى في موريتانيا مثل “شنقيط”، و”لاتة” و”تيشيت” في الخصائص العمرانية العامة لفن العمارة الاسلامي، لكن لها طابعها المتميز الذي يعود ربما الى كونها مدينة تجارية – رعوية. فقد تركت ساحات واسعة لاستقبال القوافل القادمة من الشمال حاملة الملح عبر طريق شق لهذا الغرض واطلق عليه “طريق الملح”، ومن الجنوب عبر “طريق الزرع”. وللمنازل ساحتان الاولى واسعة تستخدم للخيول والابل والغنم. والثانية تنبسط امام غرف السكن.

شعر وقمر:

يقع وادي الرشيد في الجزء الشمالي من ولاية “تكانت” المعروفة بجمال طبيعتها، وقد خلّد شعراء المنطقة هذا الجمال في دواودين شعرهم العامي والفصيح، وكان للرشيد والمناطق المحيطة به النصيب الاوفر. ويعتبر الشاعران المشهوران في موريتانيا محمد ولد ادبه ومحمد بوسروال من اهم الذين خلدوا الرشيد وجعلوه في عيون الموريتانيين “الجنة الموعودة” او “المفقودة” وخاصة ولد ادبه. ويدمج الشعراء تغّنيهم بالمرأة في شعر الطبيعة، وغالباً ما يكنون عن “الحبيب” بالارض.

وعرف الرشيد قصص حب كبرى لا يريد اهله المحافظون اعطاء تفاصيلها على رغم انها “عذرية ليس فيها ما يخدش الحياء” على اعتبار ان “اصحابها صاروا في القبر”… والحب البدوي البريء والطرب وجهان آخران للرشيد “المدينة” والرشيد “الوادي” حافظ عليهما خلال عهوده المختلفة… وخلافاً لشعر الحماسة والفخر الذي هو في طريقه الى النسيان لأن اغراضه لا تتماشى مع الواقع الجديد، وتثير حساسيات لا احد يريدها الآن، يعرف شعر الطبيعة الممزوج بالغزل انتشاراً واسعاً بفضل مطربين من اهل الرشيد والموريتانيين كافة، كما ظهر في دواوين مطبوعة.

ولأهل الرشيد ارتباط رومانسي خاص بطبيعة بلدتهم، وحنين عاطفي قوي الى نمط الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية القديم. وشكل اخيراً عدد من شبان البلدة المقيمين في نواكشوط رابطة اطلقوا عليها “نادي اصدقاء الرشيد”.

ويقول هؤلاء الشبان ان ناديهم سيعمل على ترميم المدينة القديمة واعادة وجهها الثقافي والتاريخي، وإلحاقها بخمس مدن موريتانية قديمة تبنتها “اليونسكو”. ويزمع اعضاء “نادي اصدقاء الرشيد” تحويل المدينة الى مزار للسياح الكثيرين الذين لا تخلو منهم الواحة في اي من فصول السنة، والذين هم اساساً من الاوروبيين.

وفي الواحة امكانات سياحية هائلة تقوم على مناظرها الجميلة. ومنها ينبوع “إريجي” الذي ينفجر من تحت صخرة صغيرة في قعر الوادي ماء زلالاً. وتقول الاساطير المحلية ان “عين” “إريجي” انفجرت حينما ضرب رجل صالح الارض بقدمه لما وجد رجلاً ميتاً عطشاً عند بئر في هذا المكان.

ويمثل مرافقي المتطوع سيد المختار مثالاً صارخاً على الارتباط بـ “الوادي” وماضيه. وهو مثقف يعمل في العاصمة. لكن لا يلذ له مقام الا في الواحة التي يأتي اليها “للتبتل واجترار الذكريات في هذا المحراب السحري”، ولينسى “المدينة وادرانها”.

وقال سيد المختار ونحن في البطحاء في ليلة مقمرة: “لو سُئلت لقلت للزمن قف… وعد الى الوراء قليلاً…”.

ولأهل القرية تعلّق خاص بالقمر… وفي الليالي المقمرة الدافئة ينسحب الناس من منازلهم الى البطحاء ولا سيما الشباب منهم، وتُدار كؤوس الشاي المنعنع، وأشرطة الغناء، او تقام حفلات عفوية. وقال صاحبي “هذه مجرد ظلال لماضٍِ ولى… انهم يتشبثون بالظلال، ويؤدون بعض الادوار على مسرح متجول”…

ويشرب سيد المختار في هدؤء كأس شاي مستمعاً الى حفيف سعف النخيل تداعبه نسمة خفيفة فيتمايل كأنما اطربته وشوشة العصافير وغناء صبايا جلسن غير بعيد منا… يمدّ بصره عبر شريط البطحاء الطويل ثم يقول: “انظر الى هذا الشريط، لقد عرفته ايام كانت حلقات السياسة والعلم واللهو تملؤه آناء الليل.

ويبدأ صاحبي سرد قصة موسم “القيطنة” موسم التمور: “يستمر الموسم ثلاثة اشهر صيف كل عام. ويأتي الناس فيه من البوادي والمدن لأكل البلح وقطف التمور ولا يشترط ان يكون للقادم نخيل، فالذين لا يملكون يعتبرون ضيوفاً على اهل البلدة . ومع ان الهدف الاول كان البلح فان الفترة تحولت موسماً ثقافياً وفنياً وسياسياً. فخلال “القيطنة” تنظم المناظرات الشعرية والادبية والفقهية، والمهرجانات الاحتفالية والاعراس ومجالس الطرب، وسباق الخيل والإبل والرماية. وتعقد التحالفات السياسية والعسكرية، وتنشأ بذور الحرب والسلام. وتحلّ الخصومات المزمنة والنوازل الفقهية المعقدة، نتيجة تجمع العلماء والقضاة الذين يأتون من مختلف النواحي”.

ويتوقف سيد المختار عن السرد ثم يسأل: “هل شاهدت في البلاد الاخرى مناظر اجمل من انعكاس ضوء هذا القمر على رمل البطحاء الابيض، والنخيل، والجبال، والكثبان الشقراء؟”.

الحنين الى الماضي:

ويتأوه صاحبي وهو يستمع الى شريط في مقام “البتيت” الموريتاني الحزين للمطرب الراحل الشيخ ولد أبه وهو يغني للشاعر محمد ولد أدبه قصائد في الرشيد وبطحائه، وموسم “القيطنة” والحبيبات اللائي لا يذكرن بالتصريح لكن يُكنى عنهن بالارض.

والغناء يبدأ عادة بالذكر وينتهي بالاستغفار والصلاة على النبي. ومع ان للفن ناسه الذين يمارسونه وحدهم الا ان معرفته من امارات الفتوة.

واصيب الفن والطرب بانتكاسة قوية خلال الاعوام الاخيرة بهجرة الفنانين الى نواكشوط. وتحاول فرق محلية ملء الفراغ الذي خلفته الهجرة، وهي فرق ليست في الاصل من طبقة الفنانين (المطربون في موريتانيا طبقة اجتماعية تحتكر الفن)، لكنها من أسر اخرى كثيرة لا تحترفه بل تمارسه هواية، ويشتهر اهل واحة الرشيد بجمال الاصوات وصفائها.

قال سيد المختار والقمر ينسحب شيئاً فشيئاً ناحية الغرب إيذاناً بطلوع يوم جديد: “اننا نصارع الزمن… نضع قدماً في المستقبل، واخرى على ماض شارد”. وأردف: “لا انكر انني اعيش على اجترار الذكريات، واحاول عبثاً وقف يد الزمن عن ردم صورة منتقاة من ماض راحل”.

ومنذ هدم الفرنسيين المدينة القديمة العام 1908 لم يستقر من اهل الرشيد به الا نفر قليل يقوم على حراسة النخيل. فقد عاد اهله منذ ذلك التاريخ الى الترحال، باستثناء الاشهر الثلاثة التي يستغرقها موسم التمور. وفي بداية السبعينات أسست قرية الرشيد الحديثة، وهاجر منها البعض في الاعوام الاخيرة بسبب الجفاف والعزلة المفروضة على ولاية “تكانت” بشكل عام نتيجة قسوة الطبيعة وانعدام الطرق المعبدة.

وينشط السكان في زراعة الخضار والشعير والقمح. ويستخدمون “الشادوف” الذي ظل خلال تاريخ الرشيد الوسيلة الوحيدة لاستقاء الماء من الآبار، وهو يصنوع من جذوع النخل.

وتأمل التعاونيات الزراعية “النسائية” المنتشرة في الواحة الحصول على مضخات مائية من المنظمات غير الحكومية الغربية التي بدأت تهتم بالرشيد منذ بعض الوقت.

وعلى رغم العزلة شبه الكاملة عن اجزاء موريتانيا الأخرى فان سكان الرشيد يشاهدون تلفزيونات العالم من CNN الى MBC مروراً بالتلفزيون السعودي والليبي والمغربي، ولا يشاهدون التلفزيون الوطني لانه لا يغطي الا العاصمة ومدينتين كبيرتين اخريين.

وتصبح القرية الصغيرة مركز الاقليم الذي تقع فيه اثناء المناسبات الدولية والرياضية الكبرى، بفضل صحن فضائي زرعه النائب في البرلمان احمد ولد اجه فوق منزله.

وأحمد من ابناء الواحة الذين احبوا طبيعتها حتى التصوف وقد امضى جزءاً من حياته في اوروبا، ويعيش نمط اسلوب عصري في حياته الخاصة. وعلى الرغم من اقامته الرسمية في نواكشوط، فانه لا يهنأ له بال الا في الواحة.

ويشاهد المهتمون من مسؤولي عاصمة اقليم “تكانت” وسكانها الاحداث الكبرى على الشاشة في الرشيد، وهذا ما حدث خلال حرب الخليج والمفاوضات العربية – الاسرائيلية . ويقول سكان البلدة انها استعادت بعض اهميتها السياسية في عهد التعددية الحزبية بحكم اتساع القاعدة القبلية لسكانها، لكنها اقتصادياً لا تدخل ضمن اهتمامات السلطات.

ومثل مدن موريتانية كثيرة تواجه الرشيد زحف الرمال بمعدل سريع، ويتعاون السكان مع الجهات الرسمية على تنفيذ برامج محددة لمكافحة هذا الزحف.

ويلملم القمر أذياله منهياً “سهرة رشيدية” جميلة يقول صاحبي في ختامها مشراً الى جبل “الشنينيفة” على بعد امتار منا: “انظر الى هذا الجبل انه هنا منذ الزمن الغابر، وقد ظل حارساً اميناً لهذا الوادي، وشاهداً على ملحمة الحياة والموت التي مثلت هنا على مرّ التاريخ… انني أراه حزيناً، ضجراً يتثاءب… وحق له ان يحزن…”

ملاحظة: الصور مضافة إلى التحقيق من “مورينيوز” .. وصورة الوادي داخل النص شخصية صورها الكاتب محمد محمود ولد ودادي

تفاصيل النشر:

المصدر: الوسط

الكاتب: الشيخ بكاي

تاريخ النشر(م): 4/11/1996

تاريخ النشر (هـ): 23/6/1417

منشأ: موريتانيا

رقم العدد: 249

الباب/ الصفحة: 44 – 45 – 46 – 47 – تحقيق